وقريب منه قول ابن عطيةَ :« الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ».
وقال ابنُ عَطِيَّة -أيضاً- : ويحتمل عندي -أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً، فتأمله «.
وقيل : هو المصدر المفهوم من ﴿ قَالُواْ ﴾، و ﴿ حَسْرَةً ﴾ مفعول ثانٍ، و ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ يجوز أن يتعلق بالجَعْل -وهو أبلغ- أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله.

فصل


ذكروا -في بيان ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم -وجوهاً :
الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر، او الغزو، لبقي، فذلك الشخص إنما مات، أو قُتِلَ بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه، أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك، فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللهِ وقضائه، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة البتة.
الثاني : أن المنافقين إذا القوا هذه الشبهة إلى إخوانهم، تثبطوا، وتخلَّفوا عن الجهاد، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة، والاستيلاء على الأعداء، والفوز بالأماني، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد، والحَسرة.
الثالث : أن هذه الحسرة، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب.
الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين، ووجدوا منهم قبولاً لها، فرحوا بذلك؛ لرواج كيدهم، ومكرهم على الضَّعَفَة، فالله -تعالى- يقول : إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل.
الخامس : أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم، فيقعون عند ذلك في الحسرة، والخيبة، وضيق الصدر، وهو المراد بقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ].
السادس : أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء، لم يلتفتوا إليهم، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم، فتحصل الحسرة في قلوبهم.
قوله :﴿ والله يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ فيه وجهان :
الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين، وتقريره : إن المحيي والمميت هو اللهُ تعالى، ولا تاثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ، وأن علمَ اللهِ لا يتغير، وأن حُكْمَه لا ينقلب، وأن قضاءه لا يتبدَّل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟
فإن قيل : أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاءَ اللهِ يتبدَّل، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ. والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكلف، وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه.


الصفحة التالية
Icon