و « خير » -هنا- على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء.
قال ابن الخطيبِ :« والأصوب -عندي- أن يقال : إن هذه اللام في » المغفرة « للتأكيد، فيكون المعنى : إن وجب أن تموتوا، أو تُقْتَلوا، في سفركم أو غزوكم، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة -أيضاً- فلماذا تَحْتَرزون عنه؟ كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ، ثمَّ بتقدير أن يكون لازماً، فغنه يستعقب لزوم المغفرةِ، فكيف يليق بالعاقل ان يحترز عنه » ؟
قوله :﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ أي : ورحمة من الله، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حذف آخر، مصحِّح للمعنى، وتقديره : لمغفرةٌ لكم من الله، ورحمة منه لكم.
فإن قيل : المغفرة هي الرحمة، فلِمَ كرَّرها، ونكَّرَها؟
فالجوابُ : أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها، وهو المراد بقوله :« مما تجمعون » ونظيره قوله تعالى :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ بالتوبة : ٧٢ ] والتنكير قد يشعر بالتقليل، وأما التكرير فلا نسلمه؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة، فيرحم، ثم يغفر.
قوله :« مما يجمعون » « ما » موصولة اسمية، والعائدُ محذوفٌ، يوجوز أن تكون مصدرية.
وعلى هذا فالمفعول به محذوف، أي : من جمعكم المال ونحو.
وقراءة الجماعة « تجمعون » -بالخطاب- جَرياً على قوله :« ولئن قتلتم » وحفص -بالغيبة- إما على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
فإن قيل : ههنا ثلاثة مواضع، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير، وقدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ : ان الأولَ لمناسبة ما قبله، من قوله :﴿ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى ﴾ فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلَّ تحريض على الجهادِ، فقُدِّمَ الأهمّ الأشرف، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً.
فالجوابُ : أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات.
فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
قوله :﴿ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾ هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى :﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله ﴾ وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه، ثم قال :﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ وهو إشارة إلى مَنْ عبده لطلب ثوابه، ثم ختمها بقوله :﴿ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾ وهو إشارة إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ، وهذا أعلى المقاماتِ، يروى أن عيسى -عليه السَّلامُ- مَرَّ باَقوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، ورأى عليهم آثارَ العبادة، فقال : ماذا تَطْلُبُون؟ فقالوا : نخشى عذابَ اللهِ، فقال : هو أكرمُ من أن يمنعكم رحمته.