قوله :﴿ فاعف عَنْهُمْ ﴾ جاء على أحسن النسق، وذلك أنه -أولاً- أُمِر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصَّةِ نفسه، فإذا انتهَوْا إلى هذا المقام أمر أن يستغفرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعاتُ، فلما صاروا إلى هنا أُمِرَ بأن يشاوروهم في الأمرِ إذا صاروا خالصين من التبعتين، مُصَفَّيْنَ منهما.
والأمرُ هنا -وإن كان عاماً- المراد به الخصوص. قال أبو البقاء : الأمر -هنا- جنس، وهو عامٌّ يراد به الخاصُّ؛ لأنه لم يُؤمَر بمشاورتهم في الفرائض، ولذلك قرأ ابن عباسٍ : في بعض الأمر وهذا تفسيرٌ لا تلاوةٌ.

فصل


ظاهر الأمر الوجوب، و « الفاء » في قوله :﴿ فاعف عَنْهُمْ ﴾ تدل على التعقيب، وهذا يدل على أنه -تعالى- أوجب عليه ﷺ أن يعفو عنهم في الحال، ولما آل الأمرُ إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه، فقال :﴿ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين ﴾ [ آل عمران : ١٣٤ ] وقوله :﴿ واستغفر لَهُمْ ﴾ يدل على دلالة قوية على أنه -تعالى- يعفو عن أصحاب الكبائر، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة، لقوله تعالى :﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير ﴾ [ الأنفال : ١٦ ] وقوله ﷺ حين عد الكبائر- :« والتولي يوم الزحف » وإذا ثبت أنه كبيرة، فالله تعالى -حضّ- في هذه الآية -على العفو عنهم، وأمر النبي ﷺ بالاستفغار لهم، وإذا أمره بالاستغفار لهم لا يجوز أن لا يجيبه إليه؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم، وإذا دلت الآية على أنه -تعالى- شفع محمداً في أصحاب الكبائر في الدنيا فلأنه يشفعه يوم القيامة كان أولى.
قوله :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ يقال شاورهم مشاورة وشِوَاراً وَمَشورة، والقوم شورى، وهي مصدر، سمي القوم بها، كقوله :﴿ وَإِذْ هُمْ نجوى ﴾ [ الإسراء : ٤٧ ] قيل : المشاورة : مأخوذة من قولهم : شُرتُ العسل، أشورُه : إذا أخذته من موضعه واستخرجته.
وقيل : مأخوذة من قولهم : شربت الدابّة، شوراً -إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشواراً، كأنه بالعرض- يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
الفائدة في أمر اللهِ لرسوله بالمشاورة من وجوه :
الأول : أن مشاورة الرسول ﷺ إياهم توجب علو شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له، فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم، فيحصل سوء الخلقِ والفظاظة.
الثاني : أنه ﷺ وإن كان أكملَ الناس عقلاً، إلا أن [ عقول ] الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسانٍ من وجوه المصالح -ما لا يخطر ببال آخرَ، لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال :« أَنتم أعرف بأمور دنياكم » ولهذا السبب قال :« ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم ».


الصفحة التالية
Icon