الثالث : قال الحسنُ وسفيانُ بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير ذلك سنة في أمته.
الرابع : أن النبيَّ ﷺ شاورهم في واقعة أُحُد، فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى ألا يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم -بسبب مشاورتهم- بقية أثرٍ، فأمره الله -تعالى- بمشاورتهم بعد تلك الواقعةِ، ليدل على أنه لم يَبْقَ في قلبه أثرٌ من تلك الواقعة.
الخامس : أنه ﷺ أمر بمشاورتهم، لا ليستفيد منهم رأياً وعِلْماً، بل ليعلم مقادير عقولهم، ومحبتهم له.
وقيل : أمر بالمشاورة [ ليعلم ] مقدار عقولهم وعلمهم، فينزلهم منازلهم على قدر عقولهم وعلمهم. وذكروا -أيضاً- وُجُوهاً أُخَرَ، وهذا كافٍ.

فصل


اتفقوا على أنَّ كلَّ ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول ﷺ أن يشاورَ الأمةَ فيه، لأن النصَّ إذا جاء بطل الرأي والقياس، أما ما لا نصَّ فيه، فهل يجوز المشاورةُ فيه في جميع الأشياء، أم لا؟ قال الكلبيُّ وأكثر العلماء : الأمر بالمشاورة إنما هو في الحروبِ، قالوا : لأن الألف واللام -في لفظ « الأمر » ليسا للاستغراق؛ لما بينَّا أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام -هنا- على المعهود السابق، والمعهودُ السابقُ في هذه الآية ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ مختصاً بذلك وقد أشار الحُبابُ بنُ المنذر يوم أُحُدٍ- على النبي بالنزول على الماء، فقبل منه. وأشار عليه السعدان -سعد بنُ معاذٍ وسعد بن عبادةَ- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما، وخرق الصحيفةُ.
وقال بعضهم : اللفظ عام، خص منه ما نزل فيه وحيٌ، فتبقى حجته في الباقي.
قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن القياسَ حُجَّةٌ.

فصل


روى الواحديُّ في « البسيط » عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر -Bهما- واستشكلته ابن الخطيب، قال :« وعندي فيه إشكالٌ؛ لأن الذين امَرَ اللهُ رسولَه بمشاورتهم في هذه الآية هم الذي أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم -وهم المنهزمون- فَهَبْ ان عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآيةِ إلا أن أبا بكر ما كان منهم، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟ ».
قوله :﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ ﴾ الجمهورُ على فتح التاءِ؛ خطاباً له ﷺ وقرأ عكرمة وجعفر الصادق -ورُويت عن جابر بن زيد- بضَمِّها. على انها لله تعالى، على معنى : فإذا ارشدتك إليه، وجعلتك تقصده.


الصفحة التالية
Icon