« إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مِنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -أو فَأنْكَرَهَا- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها » وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين.
والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت، بل هم -منذ كانوا- مُصِرُّون على الجهالات والحماقات.
ثم قال :﴿ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ﴾ أي : النار، وهو بمعنى المُحْرَق -كالأليم بمعنى المُؤلم- وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت، أو عند الحشر، إن لم يكن هناك قَوْلٌ.
فإن قيل : إنهم أوردوا سؤالاً، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً، فلو طلب اللهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً، وذلك مُحالٌ، فوجب أن يقال : إنه لم يَطْلبِ المال من وعبيده، وذلك قادحٌ في كونه ﷺ صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ، فهذا هو شُبْهَتُهم، فأين الجوابُ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا؟.
فالجوابُ : إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر اللهُ عبيده ببذل الأموال، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء. وأما على قول المعتزلة- فإنه تعالى يُراعي المصالح- فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ :
منها : أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ.
ومنها : أن يصير القلبُ -بذلك الإنفاقِ- فارغاً من حُبِّ ما سوى اللهِ تَعَالَى.
ومنها : أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه، فتتألم روحه لمفارقته.
قوله :﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ ﴾ مبتدأ وخبر، تقديره : ذلك مستحق بما قدمت، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظر. و « ما » يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة، و « ذلك » إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ :
أحدهما : أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول؛ عَطْفاً على « ذُوقُوا » كأنه قيل : ونقول لهم -أيضاً- ذلك بما قدمت أيديكم، وُبِّخُوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب.
الثاني : أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله ﷺ يوم نزولِ الآيةِ. وذكرت الأيدي؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها، قال القرطبيُّ :« وخص الأيدي بالذكر؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله :﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ ﴾ [ القصص : ٤ ] وأصل » أيْدِيكُمْ « أيْدِيُكُم، فحُذِفت الضمةُ؛ لثقلها.
قوله :﴿ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ عطف على » ما « المجرورة بالباء، أي : ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم، وعدم ظُلْمه لكم.