فصل


قال الفرّاءُ :« يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا » أي : بما فعلوا، كقوله :﴿ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٧ ] أي : فَعَلْتِ، وقوله :﴿ واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ﴾ [ النساء : ١٦ ]. قال الزمخشريُّ :« أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ [ مريم : ٦١ ] ويدل عليه قراءة أبَي يفرحون بما فَعَلوا ».
قوله :﴿ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ قد تقدم معناه في كيفية النظم ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ ﴾ أي : بمنجاة من العذاب، من قولهم : فاز فلان -إذا نجا- أي : ليسوا بفائزين.
وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب : فوَّز الرجل -إذا مات-.
وقال الفرّاءُ : أي : ببعيد من العذاب؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه، ثم حقَّق ذلك بقوله :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
قوله :﴿ مِّنَ العذاب ﴾ فيه وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف، على أنه صفة لِ « مَفَازَةٍ » أي : بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا « مَفَازَةٍ » مكاناً، أي بموضع فَوْز.
قال أبو البقاء :« لأن المفازةَ مكان، والمكانُ لا يعملُ ».
يعني فلا يكون متعلقاً بها، بل محذوف، على أنه صفة لها، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها ﴿ مِّنَ العذاب ﴾ اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره : بمفازة منجيةٍ من العذابِ، وفيه الإشكالُ المعروفُ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف -في مثله- إلا كَوْناً مطلقاً.
الثاني : أن يتعلق بنفس « مفازة » على أنها مصدر بمعنى الفَوْز، تقول : فزت منه أي : نَجَوْت، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالة على التوحيد.
كقوله :[ الطويل ]
١٧١٣- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فأعمل « رهبة » في « عقابك » وهو مفعول صريح، فهذا أولى.
قال أبو البقاء :« ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ ».
فإن أراد تفسير المعنى فذاك، وإن أراد أنه بهذا التقدير -يصح التعلُّق، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً.


الصفحة التالية
Icon