﴿ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً ﴾ [ يونس : ١٢ ] - حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة.
و ﴿ قِيَاماً وَقُعُوداً ﴾ جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن، وحينئذ يتأوَّلان على معنى : ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا.
فصل
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عباس، والنَّخعيّ، وقتادة : هذا في الصلاة، يُصلي قائماً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ.
وقال سائر المفسّرين : أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات.
قوله :﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على الصلة، فلا محلَّ لها.
والثاني : أنها في محل نصبٍ على الحالِ، عطفاً على ﴿ قِيَاماً ﴾ أي : يذكرونه متفكِّرين.
فإن قيل : هذا مضارع مثبت، فكيف دخلت عليه الواو؟.
فالجوابُ : أن هذه واو العطف، والممنوع إنما هو واو الحال.
و « خَلْق » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على أصْله، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله.
الثاني : أنه بمعنى المفعول، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف، أي : يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها.
وقال أبو البقاء :« وأن يكون بمعنى المخلوق، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى ».
قال شِهَابُ الدّينِ :« وهذا كلامٌ متهافتٌ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل ».
فصل
﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ﴾ وما أبدع فيهما؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع، [ ويعرفوا ] أن لهلا مُدَبِّراً حَكِيماً.
وقال بعض العلماءِ : الفكرة تُذْهِب الغفلة، وتُحْدِث للقلب خشية، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفِكْرة.
واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين :
دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ، كما قال تعالى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض؛ لأن دلالتها أعجب، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً، وأسراراً عجيبةً، وان الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء -بتقدير العزيز العليم- ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه على تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات -مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم- وإلى الأرض- مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان -عرف أن تلك الورقة- بالنسبة إلى هذه الأشياء- كالعدم، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير، عرف أنه لا سبيل لَهُ -ألبتة- إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ -مع هذا- إلا الاعترافُ بأنَّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة -وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها- فعند ذلك يقول :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد، ويشتغل بالدعاء، فيقول :﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.