ونادى ودعا يتعديان باللام تارةٌ، وب « إلى » أخرى، وكذلك نَدَبَ.
قال الزمخشريُّ : وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ : إنها بمعنى « إلى » ولا أنها بمعنى الباء، ولا أنها لام العلة -أي : لأجل الإيمان- كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى -إذا وفَّقه الله لذلك- صار كأن يدعو إلى الهُدَى، وينادي يما فيه من أنواعِ الدلائلِ، كما قيل -في جهنم- :﴿ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى ﴾ [ المعارج : ١٧ ] إذْ كان مصيرهم إليها.

فصل


اختلفوا في المراد بالمنادِي : فقال ابنُ مسعود، وابنُ عباسٍ، وأكثرُ المفسّرين : يعني محمداً ﷺ وقال القرطبيُّ : يعني القرآن؛ إذ ليس كلهم سَمِعَ رسول الله ﷺ ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللهُ -تعالى- عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا :﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ ﴾ [ الجن : ١- ٢ ]. قوله :« أَنْ آمَنُوا » في « أن » قولان :
أحدهما : أنها تفسيرية؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ.
ثانيهما : أنها مصدرية، وصلت بفعل الأمرِ، وفي وَصْلِها به نظرٌ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم. كتبت إليه بأن قُمْ فهي -هنا- مصدرية [ ليس إلا، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر، وإذا قيل بأنها مصدرية ] فالأصل التعدي إليها بالباء، أي : بأن آمنوا، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ -الجرُّ والنصبُ.
قوله :« فآمَنَّا » عطف على ما « سَمِعْنَا » والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة، والمعنى : فآمنا بربنا.
قوله :﴿ رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار ﴾ اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ :
أحدهَا : غفران الذنوب، والغفران : هو الستر والتغطية.
ثانيها : التكفير، وهو التغطية -أيضاً- يقال : رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح -أي : مُغَطَّى -ومنه الكُفْر- أيضاً-
قال الشاعرُ :[ الكامل ]
١٧١٥-.................... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا
فالمغفرة والتكفير -بحسب اللغة- معناهما شيء واحد، وأما المفسرون فقال بعضهم : المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ.
وقيل : المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب، وبالثاني المستأنفُ.
وقيل : المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة، وبالتكفير ما تكفِّره الطاعةُ العظيمةُ.
وقيل : المرادُ بالأولِ : ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل.
ثالثها : قوله :﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار ﴾ أي : توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ، وقيل : تُجَوَّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول، فيتعلق بمحذوف.


الصفحة التالية
Icon