وثانيها : روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ.
فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله ﷺ فأخذ المعول من سلمان، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر، وكبر المسلمون، وقال عليه السلام :« أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء، ثم ضرب الثالثة فقال : أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها، فأبشروا »، فقال المنافقون : ألا تعجبوا من نبيكم، يَعِدُكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا، فنزلت هذه الآية.
وثالثها : قال الحسنُ : إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم، ويردَّ ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم.
وقيل : نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ، في قولهم : إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها.
قال ابن إسحاق : أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم، وأن عيسى - عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - تعالى - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله :﴿ تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
فصل
قوله :﴿ مَالِكَ الملك ﴾ أي : مالك العباد وما ملكوا.
وقيل : مالك السموات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه- :« أَنَا اللهُ، مالك الملك وملك الملوك، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم ».
فصل
قال الزمخشريُّ :« مالك الملك، أي : يملك جنس الملك، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون ».
قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي :« تُؤتِي الْمُلْكَ » يعني النبوَّة والرسالة، كما قال تعالى :﴿ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ٥٤ ]، فالنبوة أعظم مراتب الملك؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً، أما باطناً؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ، وأما ظاهراً؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ.