الثاني : أنَّهُ تعالى تكلم بهذه الآية مرَّتين، يريدُ في كلِّ مرَّةٍ مفهوماً آخر.
وَإنْ كان لفظ « الأمِّ » حقيقة في الأمّ الأصليَّة، مجازاً في الجدَّات، فقد ثبت أنَّهُ لا يَجُوزُ استعمال اللَّفْظِ الوَاحِدِ دفعةً واحدةً في حقيقته ومجازه معاً، وحينئذٍ يرجع الطريقان المذكوران [ للأول ]، وَكُلُّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات، بإنَاثٍ، أو بِذُكُورٍ، فهي بنتُكَ، وهل بِنْتُ الابْنِ وبِنْتُ البِنْتِ تسمّى هنا حقيقة أوْ مجازاً؟ فيه البحث كما في الأمِّ.

فصل هل زواج الرجل بأمه يوجب الحد


قال الشَّافِعِيّ : إذا تزوَّج الرَّجُل بأمِّهِ ودخل بها، لزمه الحدُّ.
وقال أبُو حَنِيفَةَ : لا يلزم، حجة الشَّافِعِيِّ أنَّ وجود هذا النكاح وعدمه سواء، فَكَانَ هذا الْوَطْء زنا، فيلزمه الحدّ، وَإنَّمَا قلنا : إنَّ وجوده وعدمه سواءً؛ لأنَّهُ تعالى قال ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ وقد علم من دين محمد ﷺ أنَّ المراد من هذه الآية تحريم نكاحها، وإذَا ثبت ذلك فنقولُ : الموجودُ ليس إلا صيغة الإيجاب والقَبُولِ، فَلَوْ حصل هذا الانعقاد، لكانَ هذا الانعقَادُ إمَّا أنْ يقالَ : إنَّهُ حصل في الحقيقة أو في حكم الشَّرع، والأوَّلُ باطل؛ لأنَّ صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجدُ إلا بعد الإيجاب، وحصولُ الانعقاد بَيْنَ الموجود والمعدوم محال.
والثَّاني باطلٌ؛ لأنَّ اللَّه -تعالى- بيَّنَ في هذه الآية بطلان هذا العقد [ قطعاً ]، وإذا كان هذا العقد بَاطِلاً قطعاً في حكم الشَّرْعِ، فكيف يمكنُ القَوْلُ بِأنَّهُ منعقدٌ شَرْعاً؟ فَثَبَتَ أنَّ وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة.

فصل [ حكم نكاح البنت من الزنا ]


قال الشَّافِعِيُّ -Bه- : البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني.
وقال أبو حنيفة وأحمد : تحرم. حجَّةُ الشَّافِعِيِّ أنَّهَا ليست بنتاً فلا تحرم، وإنما قلنا : ليست بنتاً لوجوه :
أحدها : أنَّ أبا حنيفة -Bه- إمَّا أن يثبت كونها بنتاً له بناء على الحقيقةِ، وهي كونها مخلوقة من مائه أو [ بناء ] على حكم الشَّرعِ بثبوت هذا النَّسَبِ، والأوَّلُ باطلٌ على مذهبه طرداً أو عكساً، وأمَّا الطرد فهو أنَّهُ مخلوق من مَائِهِ، مع أن أبَا حنيفة قال : لا يثبت ولدها إلا عند الاستلحاق، ولو كان النَّسب هو كون الوَلَدِ مخلوقاً من مائه، لما توقّف [ أبو حنيفة في ] ثبوت هذا النسب على الاستلحاق.
وَأمَّا العكس فهو أنَّ المشرقي إذَا تزوَّجَ بالمغربية، وحصل هناك ولد فَأبُو حَنِيفَةَ أثْبَتَ النسب ههنا مع القطع بأنَّهُ غير مخلوق من مَائِهِ، فثبت أنَّ القول بجعله التَخليق من مائه سبباً للنَّسب باطل، طرداً أوْ عكساً على قول أبِي حنيفة، وأمَّا إذا قلنا : إنَّ النَّسب إنَّمَا يثبت لحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون أنَّه لا نسب لولد الزِّنى من الزَّاني، ولو انتسب إلى الزَّاني لوجب على القَاضِي منعَه من ذلك الانتساب، فَثَبَتَ أنَّ انتسابها إلَيْهِ غير ممكن، لا على الحقيقة، ولا على حكم الشرع.


الصفحة التالية
Icon