﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٣ ] ليس نصّاً في تأبيد هذا التَّحريمِ، وَإنَّمَا عرفنا ذلك التَّأبيد بالتَّواتر من دين محمد -E-.
الثَّانِي : أنَّ حرمة الجمع بَيْنَ الأخْتَيْنِ لِكَوْنِهِما أخْتَيْنِ يناسبُ هذه الحرمة؛ لأنَّ الأخْتيَّة قَريبَةٌ فناسبت مزيد الوصلة والشّفقة والكرامة، فكون إحداهما ضرَّة الأخْرَى موجبٌ الوَحْشَةَ العظيمةَ والنُّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ كالأختية تناسب حرمة الجمع بينهما في النِّكَاحِ لما ثبتَ في أصُول الْفِقْهِ : أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ مع الوَصْفِ المُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بالعِلّيةِ، وهذا المعنى مَوْجُودٌ فِي المْرأةِ وعمَّتِهَا، وخالَتِهَا، بل أولى؛ لأنَّ العمّة [ والخالَة ] تشبهان الأمِّ.
والثَّالِثُ : أنَّهُ تعالى نَصَّ على تَحْرِيمِ أمَّهَاتِ النِّسَاءِ، ولفظُ الأمِّ قد ينطلقُ على العَمَّةِ والخَالَةِ، أمَّا العمَّةُ فلقوله تعالى مخبراً عن أوْلاَدِ يعقوب عليه السَّلامُ ﴿ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] فأطلق لفظ الأبِ على « إسماعيل » مع أنَّهُ كان عَمّاً وإذا كان العَمُّ أباً لزم أن تكون العَمَّة أمًّا، وأمَّا إطلاق لفظ « الأمِّ » على الخالة فقوله تعالى ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] والمراد أبوه وخالته، فإنَّ أمَّه كانت مُتَوَفَّاة في ذلك الوقتِ فثبت أن قوله ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ يتناولُ العمَّةَ والخَالَةَ من بعض الوُجُوهِ وإذا كان كذلك فلم يكن قوله ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ متناولاً له، وَإنَّمَا تناولتهم آية التحريم في قوله ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ إمَّا بالدلالة الصَّريحة، أو الجليّة، أو الخفية.
الرَّابعُ : أنْ تقولَ : يجوز تخصيصُ عموم الكِتَاب بخبر الوَاحِدِ الصّنف الثَّاني من المحرَّمات، والخارجة من هذا العموم : المطلقة ثلاثاً، ونكاح المُعْتَدَّة، ومن كان متزوّجاً بحرّة لم يجز له أن يَتَزَوَّج أمَةً، وتحريم الخامسة، وتحريم الملاعنة لقوله ﷺ :« المُتَلاَعِنَانِ لا يَجْتَمِعَان أبَداً ».
قوله ﴿ أَن تَبْتَغُواْ ﴾ في محلّه ثلاثة أوْجِهٍ :
الرَّفُعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ فالرَّفْعُ على أنَّهُ بدل من ﴿ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ على قراءة أحِلَّ مبْنِيَّاً للمفعول [ لأنّ « ما » حينئذٍ قائِمَة مقامَ الفَاعلِ؛ وهذا بدل منها بدل اشتمال، وَأمَّا النَّصْبُ فالأجود أن يكون على أنَّه بدل من « مَا » المتقدّمة على قراءة « أَحَلَّ » مبنيّاً للفاعل ] كأنه قال : وأحل لكم ابتغاء أموالكم من تزويج أو ملك يمين، وأجاز الزَّمَخْشَرِيُّ أن يكونَ نصبه على المفعول من أجلِهِ، قال : بمعنى بَيَّنَ لكم [ ما يَحِلُّ مما ] يحرم إرادة أنْ يَكُونَ ابتغاؤكم بأموالكم الَّتي جعل اللهُ لَكُمْ قِيَاماً في حال كونكم مُحْصِنِينَ، وأنحى عليه أبُو حَيَّانَ وجعله إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دسيسة الاعتزال ثم قال : فَظَاهِرُ الآية غير ما فَهِمَهُ إذ الظِّاهِرُ أنَّهُ تعالى أحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المُحَرَّماتِ السَّابق ذكرها بأمْوَالِنَا حَالَةَ الإحْصَانِ؛ لا حالةَ السِّفَاح، وعلى هذا الظَّاهِرِ لا يجوز أن يعرب ﴿ أَن تَبْتَغُواْ ﴾ مفعولاً له، لأنَّه فات شرط من شُرُوطِ المفعول له، وهو اتِّحاد الفاعِلِ في العامل والمفعول له؛ لأنَّ الفاعِلَ ب « أحل » هو اللهُ -تعالى-، والفاعل في ﴿ تَبْتَغُواْ ﴾ ضمير المخاطبين، فقد اخْتَلَفَا ولما أحسّ الزمخشريُّ إن كان أحس جعل « أن تبتغوا » على حذف إرادة حتّى يتحد الفاعل في قوله ﴿ وَأُحِلَّ ﴾ في المفعول له، ولم يجعل ﴿ أَن تَبْتَغُواْ ﴾ مفعولاً له إلاّ على حذف مضاف، وَإقامتهِ مُقَامهُ، وهذا كُلُّهُ خروجٌ عن الظَّاهِر انتهى.


الصفحة التالية
Icon