قال شهابُ الدِّينِ : ولا أدْرِي ما هَذَا التَّحمل، ولا كيف يخفى عَلَى أبي القاسم شرط اتحاد الفاعلِ في المفعولِ لَهُ حتّى يقول : إنْ كان أحسّ، وأجاز أبُو البقاءِ فيه النَّصْبَ على حذف حَرْفِ الْجَرِّ. قال أبُو البَقَاءِ : في « ما » من قوله ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ وجهان :
أحدُهمَا : هي بمعنى « مِنْ » فعلى هذا يكون قوله ﴿ أَن تَبْتَغُواْ [ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ ﴾ ] في موضع جرٍّ أو نصبٍ على تقديرِ بأن تبتغوا؛ أو لأنْ تبتغوا، أي أبيح لكم غير ما ذكرنا من النِّساء بالمُهُورِ.
والثَّاني : أنَّ « ما » بمعنى الذي، والذي كناية عن الفعلِ، أي : وأحلّ لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم، و ﴿ أَن تَبْتَغُواْ ﴾ بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكون « أن تبتغوا » في هذا الوَجْهِ مثله في الوجه الأوَّلِ، يعني : فيكونُ أصله بأن تَبْتَغُوا، أو لأن تبتغوا، وفيما قاله نظرٌ لا يخفى، وأمَّا الجرُّ فعلى ما قاله أبُو البَقَاءِ، وقد تَقَدَّم ما فيه.
و ﴿ مُّحْصِنِينَ ﴾ حال من فاعل تبتغوا، و ﴿ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ حال ثانية، ويجوزُ أن يكون حال من الضَّمَيرٍ في ﴿ مُّحْصِنِينَ ﴾، ومفعول مُحصنينَ ومُسافحينَ محذوف، أي : محصنين فُرُوجَكُمْ غير مسافحين الزَّوَانِي، وكأنَّها في الحقيقةِ حال مؤكدة؛ لأنَّ المحصن غير مسافح، ولم يقرأ أحدٌ بفتح الصَّادِ من محصنين فيما نعلم. والسَّفَاحُ الزِّنَا.
قال اللَّيث : السَّفَاحُ والمُسَافحةُ : الفجور، وأصله الصَّبُّ، يقال : دموع سَوَافِحُ ومسْفُوحةٌ.
قال تعالى :﴿ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] وفلان سَفَّاحٌ للدِّمَاء، وسمي الزَّنَا سفاحاً؛ لأنَّهُ لا غرض للزَّاني إلا صب منيه، وكانوا يَقُولُونَ صافحني ومَا ذَمَّنِي والمسافحُ من يظاهر بالزِّنَا، ومتّخذ الأخْدَان من تستر فاتَّخَذَ واحدة خفية.
فصل [ الخلاف في قدر المهر ]
قال أبُو حنيفة : لا مهر أقلَّ من عشرة دراهم، وقال غيره : يجوزُ بالقليل والكثير، واحتج أبُو حنيفة بهذه الآية؛ لأنَّهُ تعالى قَيْد التحليل بالابتغاء بالأموال و [ الدِّرهم ] والدرهمان لا يسمّى أموالاً، فلا يصحُّ جعلها مهراً.
فإن قيل : ومَنْ عنده عشرة دراهم، لا يقال عنده أموال ع أنَّكُم تجوزونها مَهْراً قلنا : ظاهر الآيةِ يقتضي ألاَّ يكون العشرة كافية، إلا أنَّا أنزلنا العملَ بظاهر هذه الآية للإجْمَاعِ على جوازه، ويتمسَّك في الأقل من العشرة بِظَاهِرِ الآية وهذا استدلال على أنَّ الابتغاء بغير الأموال غير جائز، إلاّ على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولُونَ به، واستدلّ المخالف بوجوه :
أحدها : قوله ﴿ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ ﴾ فقابل الجَمْعُ بالجَمْعِ فيقتضي توزع الفَرْد على الفَرْدِ، وهذا يقتضي أنْ يتمكَّن كلُّ واحدٍ من ابتغاء النِّكَاح بما يسمى مالاً، والقليل والكثير في هذه الحقيقةِ، وفي هذا الاسم سواء.