وأما سبب المنع من الحَسَدِ، فعلى مذهَبِ أهْلِ السُّنَّة، فلأنه تعالى ﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ البروج : ١٦ ]، ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ]، ولا اعْتراضَ علَيْه في فعله، وعلى مذْهَبِ المُعتزِلَةِ، فلأنه تعالى علاَّم الغيوب، فهو أعرف من خَلْقِهِ بوجوهِ المَصَالِح، ولهذا [ المعنى ] قال تعالى :﴿ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾ [ الشورى : ٢٧ ]، فلا بد لِكُلِّ عاقل من الرِّضَا بقضاء اللَّهِ، وممَّا يؤكِّدُ ذلك، قوله عليه السلامُ :« لاَ يَخْطبُ الرَّجُلُ علَى خِطبَةِ أخيه، ولا يَسُومُ عَلى سَوْمِ أخيهِ، ولا تَسْألِ المرأةُ طلاقَ أخْتِهَا لتلقي مَا فِي إنَائِهَا، فإنَّ الله -تعالى- هُو رَازِقُهَا » والمقصودُ من كُلِّ ذلِكَ المُبَالَغة في المَنْعِ مِنَ الحَسَدِ.
وَأمَّا الثَّاني، وهو الغِبْطَةُ، فَمِنَ النَّاسِ من جَوَّزَهُ، ومنعه آخرون قالوا : لأنَّهُ رُبَّمَا كانت تلك النِّعْمَةُ مفسدة في دينِهِ، ومضرّة عليه في الدُّنْيَا، ولذلك لا يجُوزُ للإنْسَانِ أنْ يَقُولَ :« اللَّهُمَّ أعطني دَاراً مثلَ دَارِ فُلانٍ، وزوجةً مِثْلَ زوْجَةِ فُلانٍ، بل ينبغِي أنْ يقُولَ : اللَّهُمَّ أعْطِنِي ما يَكُون صَلاَحاً في دِيني ودنياي، وَمَعادي ومَعَاشي » وإذا تأمَّلَ الإنْسَانُ لم يجد دُعَاءً أحْسَنَ مِمَّا ذكرهُ اللَّهُ في القُرآنِ تعْلِيماً لِعبَادِهِ، وهو قوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار ﴾ [ البقرة : ٢٠١ ]، ولهذا قال :﴿ واسألوا الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ٣٢ ].
وأمّا من جوّزه فاسْتَدَلَّ بقوله عليه السلامُ :« لاَ حَسَد إلاَّ في اثْنَتَيْن، رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرآنَ، فَهُو يقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وأطرافَ النَّهَارِ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فهُوَ يَنُفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وأطرافَ النَّهَارِ » فمعنى قوله :« لا حسد »، أي : لا غبطة أعظم وأفضل مِنَ الغبْطَةِ في هذين الأمْرَين.
قال بعضُ العُلَمَاءِ :« النَّهي [ عن ] التَّمنِّي المذكورِ في هذهِ الآية، هو ما لا يجوزُ تمنِّيه من عَرَضِ الدُّنْيَا، وأشباهها، وأما التَّمني في الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فحَسَنٌ قال عليه السَّلامُ :» اللَّهُمَّ وَددْتُ أنِّي أحْيَى، ثُمَّ أقتَلُ [ ثم أحيي ثم أقتل « ]، وذلك يَدُلُّ على فَضْلِ الشَّهَادةِ على سَائِر أعْمَالِ البِرّ؛ لأنَّهُ -عليه السلامُ- تمنَّاهَا دون غيرها فرزقه اللَّهُ إيَّاهَا لقوله عليه السلامُ :» مَا زَالَتْ أكْلةَ خيبرٍ تعاودني [ كُل عامٍ، حتى كان هذا ] أوان انقطاع أبْهري «.
وفي الصَّحِيح :»
إنَّ الشَّهيد يُقالُ لَهُ : تَمَنَّ، فَيقُولُ : أتَمَنَّى أنْ أرجعَ إلى الدُّنْيَا، فأقتَل في سَبيلكَ مَرَّة أخْرَى « وكان عليه السَّلامُ يتمنى إيمانَ أبي طالب وأبي لهب، وصَنَادِيد قُرَيْشٍ، مع علمه بأنَّهُ لا يكونُ.


الصفحة التالية
Icon