و « ما » يجوز فيها ثَلاَثَة أوْجُه : أن تكون بِمَعْنَى الَّذِي، أو نكرة مَوْصُوفة، والعَائِد على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوف، أي : يَقُولُونَهُ، أو مصدرية، فلا حَذْف إلا عَلَى رأي ابن السَّرَّاج ومن تَبِعَهُ.

فصل قول البعض بنسخ الآية


قال بَعْضهم : هذه الآية مَنْسُوخة بآية المائدة.
قال ابن الخَطِيب : والَّذي يمكن النَّسْخُ فيه، أنَّه -تعالى- نَهَى عن قُرْبَان الصَّلاةِ حَالَ السُّكْر مَمْدُوداً إلى غَايَة أن يَصير بِحَيْث يَعْلَم ما يَقُول، والحكم المَمْدُود إلى غاية، يَقْتَضِي انتهاء ذَلِك الحُكْم عند تلك الغَايَةِ، وهذا يَقْتَضِي جواز قُرْبَان الصَّلاة مع السُّكْر الذي يَعْلَمُ مِنْهُ ما يَقُول، ومعلوم أنَّ الله -تعالى- لما حرَّم الخَمْر بآية المائدَة، فقد رَفَع هذا الجوازَ، فثبت أن آية المائِدَة ناسِخَةٌ مَدْلُولات هذه الآية.
والجواب : أن هَذَا نَهْي عن قُرْبَان الصَّلاة حَال السُّكْرِ، وتخصيصُ الشيء بالذِّكْرِ لا يَدُلُّ على نَفي الْحُكم عما عداه، إلا على سبيل الظَّنِّ الضَّعيف، ومثل هَذَا لا يَكُون نَسْخاً.

فصل : التكليف بما لا يطاق


قال بَعْضُهم : هذه الآية تَدُلُّ على جواز التَّكْليف بما لا يُطَاق؛ لأنه -تعالى- قال :« ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى »، وهذه جملة حاليَّة، فكأنه -تعالى- قَالَ للسَّكْرَان : لا تُصَلِّ وأنْت سَكْرَان، وهذا خطاب للسكران.
والجواب عنه : بأن هذا لَيْس خِطَاباً للسَّكْرَان، بَلْ هو خِطَاب للَّذِين آمَنُوا؛ فكأنه قال : يأيُّهَا الذين آمَنُوا لا تَسْكَرُوا، فقد نهى عن السُّكْر؛ ونظيره قوله -تعالى- :﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] وهو ليس نَهْياً عن المَوْت، وإنما هو أمْر بالمُدَاوَمَةِ على الإسْلامِ، حتى يَأتيهُ المَوْت وهو في تلك الحَالِ.
قوله :« ولا جنباً » نصب على أنه مَعْطُوف على الحَالِ قبله، وهو قوله :« وأنتم سكارى » عطف المُفْرَد على الجُمْلَة لمّا كَانَتْ في تأويله، وأعاد معها « لا » تَنْبيهاً على أنَّ النَّهْي عن قُرْبَان الصَّلاة مع كل واحدٍ من هَذَيْن الحَالَيْن على انْفِدَادَهَما، فالنَّهي عنها مع اجْتِمَاعِ الحَالَيْنِ آكَدَ وأوْلى، والجُنُبُ مشتقٌّ من الجَنَابَة وهو البُعْدُ؛ قال :[ الطويل ]
١٨٠٣- فَلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَريبُ
وسمي الرَّجُل جُنُباً : لبعده عن الطَّهَارةِ؛ أو لأنهَّ ضَاجَع بِجَنْبِه وَمسَّ به، والمشْهُور أنه يستعمل بِلَفْظٍ واحدٍ كالمُفْرد والمُثَنَّى والمَجْمُوع، والمُضكَّر والمُؤنَّث، ومنه الآية الكَرِيمة.
قال الزمخشري : لجريانه مَجْرَى المصدَرِ الذي هو الإجْنَابُ، ومن العَرَب من يُثَنِّيه فيَقول جُنُبَان ويجمعه جمع سَلاَمة فيقول : جُنُبُون، وتكْسِيراً فيقول : أجْنَاب، ومثله في ذلك شُلُل، وقد تقدَّم تحقيق ذلك.
قوله :« إلا عابري سبيل » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب على الحَالِ فهو استثْناء مُفَرَّغ، والعامِل فيها فِعْل النَّهْي، والتَّقْدير :« لا تقربوا الصلاة في حالة [ الجنابة إلا في حال السفر ] أو عُبُور المَسْجِد على حَسَب القَوْلَيْن.


الصفحة التالية
Icon