لما ذكر -تعالى- أنْوَاع التَّكَالِيف من أوَّل السُّورة إلى هنا، ذكر أقَاصيص المُتقدِّمين؛ لأن الانْتَقال من نَوْع من العُلُومِ إلى نَوع آخر كأنه يُنَشِّط الخَاطِر، وقد تقدَّم الكلام في قوله -تعالى- ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] والمراد ب « الذين أوتوا نصيباً من الكتاب » هم اليَهُود «.
وقال ابن عبَّاس : نزلت هذه الآيةُ في حَبْرٍ من أحْبار اليَهُود، كانا يأتِيَان رَأس المُنَافِقِين عبد الله أبيّ [ ابن سَلُول ] ورَهْطه، يُثَبِّطُونهُم عن الإسْلاَم.
وعن ابن عباس أيضاً؛ قال : نزلَتْ في رفاعة بن زَيْدٍ، ومالك بن دخشم، كَانَا إذا تَكَلم رسُول الله ﷺ لوياً لِسَانَهُمَا، وعَابَاه، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية.
قوله :» من الكتاب « فيه وَجْهَان :
أحدهما : أنه مُتَعِّق بمحْذُوفٍ، إذ هو صِفَة ل » نصيباً « فهو في مَحَلِّ نصبٍ.
والثاني : متعلَِّق ب » أوتوا « أي أُوتوا من الكِتاب نصيباَ، و » يشترون « : حالٌ، وفي صاحبها وَجْهَان :
أحدهما : أنه واو » [ أوتوا ] «.
والثاني : أنه المَوْصُول وهي على هذا حَالٌ مُقَدرة، والمُشْتَري به مَحْذُوف، أي : بالهُدَى، كما صرح به في مَوَاضِع، ومعنى » يشترون « : يستبدِلون الضَّلالة بالهُدَى.
قوله :» ويريدون « عطف على » يشترون «.
وقال النَّخْعِي :» وتريدون أن تضلوا « بتاء الخطاب، والمَعْنَى : تُرِيدُون أيها المؤمنون أن تدَّعو الصَّواب، وقرأ الحسن :» أن تَضِلُّوا « من أضل. وقرئ » أن تُضَلُّوا السبيل « بضم التَّاءِ وفتح الضَّادِ على ما لَمْ يُسَمّ فَاعِلُه، والسَّبيل مفعول به؛ كقولك : أخطأ الطَّريقَ، وليس بِظَرْف، وقيل : يتعدى ب » عن « ؛ تقول : ضلَلْت السَّبيل، وعن السَّبيل، ثم قال :» والله أعلم بأعدائكم « أي : أعْلَم بما في قُلُوبهم وصدورهم من العَدَاوة والبَغْضاء.
قوله :» وكفى بالله ولياً « تقدم الكلام عليه أوّل السُّورة، وكذا الكلام في المَنْصُوب بَعْده، والمعنى : أنه -تعالى- لما بيَّن شِدَّة عداوتِهم للمسْلِمين، بين أنه -تعالى- وليُّ المؤمِنين ونَاصِرُّهُم.
فإن قيل : ولاية الله لعبده عِبَارةَ عن نُصْرَته، فَذَكْر النَّصِير بعد ذِكر الوَلِي تكْرَارٌ.
فالجواب : أن الوَلِيَّ هو المُتَصرِّف في الشَّيْء، والمتصرِّف في الشَّيء يجب أن يكُونَ نَاصِراً.
فإن قيل : ما الفَائِدة من تكْرار قوله :» وكفى بالله «.
فالجواب : أن التِّكْرَا في مِثْل هذا المقَام يكون أشَد تَأثِيراً في القَلِب، وأكْثَر مُبَالَغَة.
فإن قيل : ما فائدة تكرار الباء في قوله :» بالله « فذكروا وجوهاً :
أحدها : لَوْ قيل : كفى الله، يتصل الفِعْل بالفَاعِل ثم ههُنا زيدَت البَاء إيذَاناً بأن الكفاية منالله لَيْسَت كالكِفَايَة من غَيْره.
وثانيها : قال ابن السَّرَّاج : تقديره : كفى اكْتِفَاؤُه بالله وَليًّا، ولما ذكرت » كفى « دلَّ على الاكتفاءِ؛ كما تقول : من كذب كان شَرّاً له، أي : كان الكَذِبُ شرًّا له، فأضمرته لدلالة الفِعْل عليه.
وثالثها : قال ابنُ الخَطيب : البَاءُ في الأصْل للإلْصَاقِ، وإنما يَحْسُن في المؤثِّر لذي لا وَاسِطَة بَيْنَهُ وبين التَّأثِير، فلو قيل : كَفَى اللهُ، دلَّ ذلك على كَوْنَهَ فاعلاً لهذه الكِفَايَةِ، ولكن لا يَدُلُّ [ ذَلِك على أنَّهُ فعل ] بِواسِطَة أو غير وَاسِطَة، فإذا ذَكَرْت البَاء، دلَّ على أنه -تعالى- يَفْعَل بغير واسِطَة، بل هو -تعالى- يتكفَّل به ابتداء من غير واسطَة؛ كقوله :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ﴾ [ ق : ١٦ ].