[ وقوله :] ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ عَطْفٌ على ﴿ يُحَرِّفُونَ ﴾ وقد تَقَدَّم، وما بعده في محلِّ نَصْب به.
فصل : الخلاف في كيفية التحريف
اخْتَلَفُوا في كيْفِيَّة التَّحريف، فقيل : كانوا يُبْدِّلُون اللَّفْظَ بلفظ آخَرَ؛ كتحريفهم الرَّجْم [ ووضعُوا ] موضِعَهُ الجَلْدَ؛ ونظيره ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله ﴾ [ البقرة : ٧٩ ].
فإن قيل : كيف يُمْكن هَذَا في الكتاب الَّذي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفه، وكلماته مَبْلَغَ التَّوَاتُر، واشتهر في الشَّرْق والغَرْب.
فالجواب : لعل القَوْم كانوا قليلين، والعُلَمَاء بالكِتَاب كانوا في غَايَةِ من القِلَّة فَقَدَرُوا على ذَلِك.
وقيل : المُرَاد بالتَّحْرِيفِ : إلْقاء الشُّبَه والتَّأويلاَتِ الفاسدَةِ لتلك النُّصًوصِ، وأما الآيَةُ التي في المَائِدة : فهي دالَّة على الجَمْع بين الأمْرَيْنِ، فكانوا يَذْكُرُون التَّأوِيلاَت الفاسِدَةِ، وكانوا يُحَرِّفُون اللَّفْظَ أيضاً من الكِتَابِ.
فقوله :﴿ يُحَرِّفُونَ الكلم ﴾ إشارة إلى التَّأويل الباطل.
وقوله :« من بعد مواضعه » إشارة إلى إخراجه عن هذا الكِتَابِ.
وقيل : المراد بالتَّحْرِيف : تغيير صفة محمد ﷺ.
قال ابن عبَّاس : كانت اليَهُود يأتون رسُول الله ﷺ ويسْألُونه عن الأمْر، فيُخْبِرهم، فيرى أنَّهُم يأخُذُون بِقَوْلِهِ، فإذا انصرفوا من عِِنْدِه، حرِّفوا كلامه ﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا ﴾ منك قولك ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ أمْرَك، وهو المُرَادُ بقوله :﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾.
قوله :﴿ واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾، في نصبِ « غَير » وجْهَان :
أحدهما : أنه حَالٌ.
والثاني : أنه مَفْعُول به، والمعنى، اسْمَع غير مُسْمَعٍ كلاماً ترضاه، فَسَمْعُك عنه نَابٍ.
قال الزَّمَخْشَريّ، بعد حكايته نَصْبه على الحَالِ، وذكرهُ المعنى المتقدّم : ويجوزُ على هَذَا أن يكون « غير مسمع » مفعول اسْمَع، أي : اسْمَع كلاماً غير مُسْمَع إيَّاك؛ لأن أذُنَك لا تعيه نبُوّاً عنه، وهذا الكلام ذُو مُسْمَع مكْرُوهاً، فيكون قد حَذَفَ المَفْعُول الثَّاني؛ لأن الأوّل قَامَ مَقَام الفَاعِل.
وبإرادة الذَّمِّ تقدّر « غير مسمع خيراً » وحذف المفعول الثاني : أيضاً [ والمعنى : كانوا يَقُولُون للنَّبِي ﷺ اسْمع، ويقُولون في أنْفُسِهم : لا سَمِعْتَ ].
وقال أبو البقاء : وقيل : أرادُوا غير مَسْمُوع مِنْكَ، وهذا القَوْل نقله ابن عطيّة عن الطَّبَرِي، وقال : إنه حِكَايةٌ عن الحَسَن ومُجَاهِد.
وقال ابن عطيَّة : ولا يُسَاعِده التَّصْريف، يَعْني : أنّ العَرَب لا تقُولُ أسْمَعْتُكَ بمعنى قَبِلْتُ منك، [ وإنما تقول أسْمَعْتُه بمعنى : سَبَبْتُه، وسمعت منه بمعنى قَبِلْتُ ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازاً، وتقدم القولُ في ﴿ رَاعِنَا ﴾ [ البقرة : ١٠٤ ]، وفيها وجوه :
أحدُها : أن هذه كلمةٌ كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخريةِ، وقيل معناها : أرِعْنَا سمْعَك، أيْ : اصرف سمْعَك إلى كلامنَا، وقيل : كانوا يقولُونَ : راعِناً، ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونةِ في لُغَتِهم.