قال المُفسِّرون : خرج كَعْبُ بنُ الأشْرَفِ، وحُيَيّ بن أخْطَبَ، فِي سَبْعِينَ رَاكِباً من اليَهُودِ إلى مَكَّةَ بعد وَقْعَةِ أحُد؛ ليُحالفُوا قُرَيْشَاً، على مُحَارَبَةِ الرَّسُول -عليه الصَّلاة والسلام- ويَنقُضُوا العهدَ الذي كان بينَهُم وبين النبيِّ ﷺ، فنزل كَعْبٌ علَى أبي سُفْيانَ؛ فأحْسَن مَثْوَاه، ونزلت اليهودُ في دُورِ قُرَيْشٍ، فقال أهْلُ « مكةَ » : إنكم أهل كتاب، ومُحَمَّدٌ صاحب كِتابٍ، ولا نأمَنُ أن يكُونَ هذا مَكراً مِنكم، فإن أرَدْتَ أن نخرجَ مَعَكَ، فاسْجُدْ لهذين الصَّنَمَيْنِ وآمنوا بهما، فَفَعلُوا ذلك؛ فذلك قوله تعالى :﴿ يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت ﴾.
ثم قال كَعْبٌ لأهْلِ مَكَّةِ : ليجيء منكم [ الآن ] ثلاثُونَ ومِنَّا ثلاثُونَ فنلْزق أكْبَادنا بالكعبةِ؛ فنعاهد رَبَّ هذا البيتِ، لنجهدنَّ على قِتَالِ مُحَمَّدٍ؛ فَفَعلُوا، ثُمَّ قال أبُو سُفْيانَ لِكَعْبٍ : إنَّك امرؤٌ تَقْرَأُ الكِتَابَ، وتَعْلَمُ، ونحنُ أُمُّيُّون، ولا نَعْلَمُ، فَأُّنَا أهْدَى طَريقاً : نَحْنُ أم مُحَمَّدٌ؟
فقال كَعْبٌ لأبي سُفْيان : اعرضُوا عليَ دينكم، فقال أبُو سُفْيَانَ : نحن نَنْحَرُ للحَجِيج الكُومَاء، ونَسْقيهمُ [ الماء ] ونَقْري الضَّيْفَ، ونُقِلُّ العَانِ، ونَصِلُ الرَّحِمَ، ونعَمِّرُ بين رَبِّنَا، ونطوفُ به، ونحنُ أهْلُ الحَرَم، ومحمدٌ فارق دينَ آبَائِهِ، وقطعَ الرَّحمَ، وفارقَ الحَرَمُ، ودينُنَا القَديمُ، ودينُ محمدٍ الحديثُ، فقال كَعْبٌ : أنْتُمْ واللهِ أهْدَى سَبِيلاً مَمَّا عليه محمدٌ؛ فنزلتْ هذه الآيةُ.
قوله :﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ فيه وجهانِ :
أحدُهُمَا : انه حَالٌ إمَّا من :« الذين » وإمَّا مِنْ واوِ « أوتوا »، و « بالجبت » مُتعلِّقٌ به، و « يقولون » عطفٌ عليه، و « الذين » مُتعلِّقٌ ب « يقولون »، واللامُ؛ إمَّا للتبيلغِ، وإمَّا لِلْعِلةِ؛ كنظائرها، و « هؤلاء أهدى » مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محل نَصْبٍ بالقول و « سبيلاً » تَميِيزٌ.
والثَّانِي : أنَّ « يؤمنون » مُسْتأنَفٌ، وكأنَّه تعجَّبَ مِنْ حَالِهم؛ إذْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ أوتِيَ نَصيباً من الكتاب؛ إلاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً مِمَّا ذُكِرَ، فَيكُونُ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنَّهُ قيلَ : إلاَ تَعْجَبُ مِنْ حَالِ الذِين أوتُوا نَصِيباً من الكتاب؟ فقيل : وما حالُهم؟ فقالَ : يؤمِنُون [ ويقولونَ، وهذان ] منافيان لحالهم.
والجِبْتُ : حَكَى القَفّضالُ، وغيرهُ، عَن بَعْضِ أهلِ اللُّغَةِ : وهو الجِبْسُُ، بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ، أُبدلتْ تاءً، كالنَّات، والأكْيَاتِ، وست؛ في النَّاسِ، والأكياسِ، وسدس، قال [ الرجز المشطور ]
١٨٠٩-....................... | شِرَارَ النَّاتِ لَيْسُوا بِأجْوَادٍ ولاَ أكْيَاتِ |
يُقالُ رَجِلٌ جِبس، وجِبتٌ، أيْ : رَذْلٌ، قِيلَ : وإنما ادَّعَى قلبَ السِّين تاءً؛ لأنَّ مَادَةَ ( ج ب ت ) مُهْمَلَةٌ. قَالَ قُطْرُبٌ : وغيرهُ يَجْعَلُها مَادَّةً مُسْتَقِلَّةً، وقِيل : الجِبْتُ : السّضاحِرُ بلُغَةِ الحَبَشَةِ، والطَّاغُوتُ : الكَاهِنُ، قالهث سعيدُ بنُ جُبَيْر، وأبُو العَالِيَةِ، وقال عِكْرمَةُ : هما صَنَمانِ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ : هُما كُلُّ مَعْبُودٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ.
وقال عُمَر : الجِبْتُ : السِّحْرُ، والطاغُوتُ : الشَّيْطَانُ؛ وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، ومُجاهِدٍ، وقال مُحمدُ بنُ سيرينََ، ومَكْحُولٌ : الجِبْتُ : الكاهنُ، والطَّاغُوتُ : السَّاحِرُ، ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ : الجِبْتُ :-بلسانِ الحبَشَةِ- : شَيْطَانٌ، وقال الضَّحَّاكُ : الجبتُ : حُيَيُّ بنُ أخْطب، والطَّاغُوتُ : كَعْبُ بنُ الأشْرَف، وقِيل : الجبتُ كُلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ، والطاغوتُ : كُلُّ ما يُطْغي الإنْسانَ.
ورَوى قَبيصةُ : أنَّ النبي ﷺ قال : العِيَافَةُ : والطَّرْقُ، والطِّيرةُ : مِنَ الجِبْتِ.
الطَّرْقُ : الزَّجْرُ، والعِيَافَة : الحط.