قرأ الجمهورُ :« نصليهم » بِضَمِّ النونِ مِنْ أصْلَى، وحُمَيْدٌ : بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَيْتُ ثُلاثِيَّا. قال القَرْطُبِيُّ : ونَصْبُ :« ناراً » على هذه القراءةِ، بِنَزْعِ الخَافِضِ تقديرهُ : بنارٍ. وقَرأ سَلاَّم، ويَعْقُوبُ :« نصليهُم » بضَمِّ الهَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ الحِجَازِ، وقد تَقَدَّمَ تَقْرِيرهُ.
وقال سِيبويْهِ :« سوف » [ كَلِمَةٌ ] تُذكَرُ لِلتَّهديدِ، والوَعِيدِ : يُقَالُ : سَوْفَ أفْعَلُ، وَينوبُ عَنْهَا حرفُ السين؛ كقوله :﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [ المدثر : ٢٦ ] وقد يردُ « سوف » و « السِّينُ » : في الوَعْدِ أيْضاً : قال تعالى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ﴾ [ الضحى : ٥ ]، وقال :﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي ﴾ [ مريم : ٤٧ ]، وقال :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ﴾ [ يوسف : ٩٨ ]، قِيلَ، أخَّرَهُ إلى وقْتِ السَّحر؛ تَحْقِيقاً للدعاءِ، وبالجملةِ، فالسَّينُ، وسَوْفَ : مَخْصُوصَتَانِ بالاسْتِقْبَالِ.

فصل في معنى قوله « بآياتنا »


يَدْخُلُ في الآيات كُلُّ مَا يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ تعالى وصفته، وأفْعالِهِ، [ وأسْمَائِه ]، والملائكةِ، والكُتُبِ، والرسُلِ؛ وكُفْرُهُم قدْ يكونُ بالجَحْدِ، وقد يكونُ بِعَدَمِ النَّظْرِ فيها، وقد يكونُ بإلقاءِ الشكُوكِ والشُّبُهَاتِ فيها، وقَدْ يكونُ بإنْكَارِهَا؛ عِنَاداً، أو حَسَدَاً.
وقوله :« نَصْلِيهم » أيْ : نُدْخِلُهم النارَ، لكن قولُه :﴿ نُصْلِيهِمْ ﴾ فيه زِيَادَةٌ على ذلك، فإنَّهُ بمنزلَةِ شَوَيتُهُ بالنارِ، يُقالُ شَاةٌ مَصْليَّةٌ، أيْ : مَشْوِيَّةٌ.
قوله :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ﴾، ﴿ كُلَّمَا ﴾ : ظَرْفُ زَمَانٍ، والعَامِلُ فيها ﴿ بَدَّلْنَاهُمْ ﴾، والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ على الحَالِ، مِنَ الضميرِ المنْصُوبِ في ﴿ نُصْلِيهِمْ ﴾، ويجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً ل « ناراً » والعائِدُ محذوفٌ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ، و « ليذوقوا » مُتعلِّقٌ ب « بدلناهم ».
قال القُرْطُبِيُّ : يُقالُ : نَضِجَ الشَّيْءُ نُضْجاً ونَضجاً، وفلانٌ نَضِيجُ الرَّأي : أيْ : مُحْكَمُهُ.

فصل في معنى قوله ﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ﴾


﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ [ جُلُودُهُمْ ﴾ أيْ :] كلما احْترقَتْ جُلودهم، بَدلنَاهُم جُلُوداً غيْرَ الجلودِ المُحْترقَةِ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ : يُبَدِّلُونَ جُلُوداً بِيضاً، كأمثالِ القَرَاطِيسِ. رُوي أنَّ هذه الآيةَ قُرِئَتْ عند عُمَرَ - رضي الله عنه - فقال عُمرُ للقارئ : أعِدْهَا، فأعَادَهَا، وكان عِنْدَهُ مُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ، فقال مُعَاذُ بنُ جَبَل - رضي الله عنه- عِندي تَفْسِيرُها : تُبدَّلُ في الساعَةِ مائةَ مرَّةٍ، فقال عمرُ : هكذا سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ.
قال الحَسَنُ : تأكُلُهمُ النارُ كُلَّ يومٍ سَبْعِينَ ألْفَ مرَّةٍ، كُلَّما أكَلَتْهُم، قِيلَ لَهُمْ : عُودُوا، فيعُودُونَ كَمَا كَانُوا.
رَوَى أبُو هُرَيرَة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال :« ما بَيْنَ مِنْكبي الكافِرِ مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ، للرّاكِبِ المًسْرِعِ ».
وعن أبي هُرَيْرة، قال رسولُ الله ﷺ :« ضِرْسُ الكَافِر، أو نابُ الكَافر، مِثْلُ أحُدٍ وغِلَظُ [ جِلْدِه ] مَسِيرةُ ثلاثَةَ أيَّامٍ ».
فَإنْ قِيل : إنَّهُ تعالى قادِرٌ على إبْقَائِهِمْ أحْياء في النَّارِ أبَدَ الآبَادِ فَلِمَ لَمْ يُبْقِ أبْدانهمُ في النَّارِ مَصُونةً عن النضْجِ، مع إيصالٍ الألم الشديد إليها، مِنْ غيْرِ تَبْدِيلٍ لَهَا؟ فالجوابُ : أنَّهُ لا يُسْألُ عما يفعلُ، بل نقولُ : إنَّهُ قَادِرٌ على أنْ يُوصِلَ إلى أبْدانِهم آلاماً عظيمةً، من غيرِ إدْخَالِ النَّارِ، مع أنه تعالى أدْخلَهم النَّارِ، فإنْ قِيلَ : كَيْفَ يُعَذَّبُ جُلُوداً لم تكن في الدنيا ولم تَعْصِهِ؟ فالجوابُ من وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : أنه يُعَادُ الأولُ في كُلِّ مَرَّةٍ، وإنَّما قال غيرَها، لتبدل صفتها، كما تقولُ : صَنَعْتُ مِن خَاتَمِي خَاتَماً غيرَهُ، فالخَاتَمُ الثَّانِي هُوَ الأولُ؛ إلاَّ أنَّ الصناعةَ، والصِّفَةَ تبدَّلتْ.


الصفحة التالية
Icon