والثالثُ : أنْ يَكُونَ صِفَةً ل ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ أيضاً. قال أبُو البَقَاءِ : على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَتْ الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى، ولم يَبْرُزُ الضَّمِيرُ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ، وهو انَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له، وأمِنَ اللِّبْسُ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ.
ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ : وُجُوبُ بروزِهِ مُطْلَقَاً، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَْهلِهمْ :« خالدين هم فيها »، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك.
[ فإن قُلْتَ :] فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ، أعني : أنَّكَ إذا جعلت ﴿ خَالِدِينَ ﴾ حالاً من ﴿ جَنَّاتٍ ﴾، فيكون حَالاً مِنْهَا لفظاً، وهي لغيرها مَعْنَى، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ.
فالجواب : أنَّ هذا، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّداً، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ، دون الحالِ.
فصل
ذكر الخُلُودِ والتَّأبِيد : فيه ردٌّ على جَهْم بْنِ صفْوَانَ، حيث يقُولُ : إنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ وعَذَابَ الآخِرَةِ يَنْقَطِعَانِ، وأيضاً فَذِكْرُهُ الخُلُودَ مع التَّأبيد؛ يَدُلُّ على أنَّ الخُلودَ غَيْر التَّأبْيد وإلا لزم التكرارُ، وهو غير جَائِزٍ؛ فدَلَّ على أنَّ الخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَة عن التَّأبيدِ، بلِ اسْتِدْلاَلُ المُعْتزِلَةِ بقوله تعالى :﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ﴾ [ النساء : ٩٣ ] على أنَّ صاحب الكَبيِرَةِ يبقى في النَّارِ أبَداً، لأنَّ هذه الآية دَلَّتْ على أنَّ الخُلُودَ طولُ المُكْثِ لا التَّأبيدِ.
قوله :﴿ لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ [ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ ] مبتدأ وخبر، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ.
فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ ﴿ جَنَّاتٍ ﴾، أو مِنْ الضَّميرِ في ﴿ سَنُدْخِلُهُمْ ﴾ وإما على كَوْنِهَا صِفَةً ل ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ بعد صِفَةٍ.
والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
فصل
المُرَادُ : طَهَارتُهُنَّ من الحَيْضِ والنّفاسِ، وجميع أقْذَارِ الدُّنْيَا، كما تَقَدَّمَ في سُورةِ البَقَرَةِ.
وقوله « وندخلهم ظلاَّ ظليلاً ».
قال الوَاحِدِيُّ : الظَّلِيلُ ليس يُنبِئُ عن الفِعْلِ، حتى يُقالَ : إنَّهُ بمعنى : فاعِلٍ، أو مَفْعُولٍ، بل هو مُبَالَغةٌ في نَعْتِ الظِّلِّ، مثل قولهم :« لَيْلٌ ألْيَلٌ ».
قال المُفَسْرُونَ : الظَّلِيلُ : الكَثيفُ الَّذِي لا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، ولا يؤذيهم بَرْدٌ، ولا حَرٌّ.
قال ابْنُ الخَطِيبِ : واعلَمْ أنَّ بلاد العَرَبِ كانت في غَايَةِ الحَرَارَةِ، وكانَ الظِّلُّ عندهم مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الرَّاحَة، ولها المَعْنَى؛ جَعَلٌوه كِنَايَةً عن الرَّاحَةِ.
قال عليه الصَّلاة والسلامُ :« السُّلْطَانُ ظِلُّ الله فِي الأرْضِ ».
وإذَا كان الظّل عِبَارَةً عن الرَّاحَة؛ كَانَ كِنَايَةً عن المُبَالَغَةِ العَظِيمَةِ في الراحة، وبهذا يَنْدَفِعُ سُؤالُ مَنْ يَقُولُ : إذا لم يَكُنْ شَمْسٌ تُؤْذِي بحرِّهَا، فما فائِدَةُ وَصْفِهَا بالظِّلِّ الظَّلِيلِ؟
وأيضاً نرى في الدُّنْيَا أنَّ المَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فيها، ولا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إليْهَا، يكُونُ هَوَواؤهَا فَاسِداً مُؤْذِياً فما معنى وَصْفِ الجَنَّةِ بذلك، فعلى هذا الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفَعُ هذه الشُّبُهَاتِ.