لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ، وشرحَ وعِيدَهُم؛ عاد إلى التَّكْلِيف، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ، حيث قالُوا للذين كَفرُوا ﴿ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً ﴾ [ النساء : ٥١ ] أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ، أو دُنْيَويَّة.
قوله :﴿ أَن تُؤدُّواْ ﴾ مَنْصُوبُ المحلّ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع « أنْ »، إذَا أمِنَ اللَّبْس؛ لطولهما بالصِّلَةِ، وإما لأنَّ « أمر » يتعدى إلى الثَّاني بنفسه، نحو : أمَرْتُكَ الخَيْرَ، فعلى الأوَّل يَجْري [ الخلاف في مَحَلَّها، أهي في مَحَلّ نصب، أم جر، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط، وقرئ « الأمانة » ].
فصل : فيمن نزلت الآية؟
نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ، فلمَّا دَخَلَ النبي ﷺ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ، وصَعَدَ السَّطْحَ، فطلبَ رسولُ الله ﷺ المفتاح فقيلَ : إنَّه مع عثمان، فَطَلَبَهُ منه فأبى، وقال : او عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللهِ [ ﷺ ] لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده، وأخذ منه المفتاح، ودخل رَسُولُ اللهِ ﷺ البيت، وصلّى فيه ركعتين، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [ المفتاحً ] أن يعطيه، ويجمع له بين السِّقَايَةِ، والسِّدَانة، فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآية، فأمَرَ النَّبيُّ ﷺ عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ، وَيَعْتَذِرَ إليه، ففعل ذلك عليٌّ، فقال عثمان : أكْرَهْتَ، وآذَيْتَ، ثم جئْتَ تَرْفُق، فقال : لقَدْ أنْزَلَ اللهُ في شأنِكَ، وَقَرَأ عليه الآية، فقال عُثْمَانُ :« أشْهَدُ [ ألا إله إلاّ الله و ] أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللهِ، وأسْلَمَ، وكانَ المِفْتَاحُ معه، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.
وقيل : المرادُ من الآية جميعُ الأمَاناتِ.
واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه، أو مع العِبَادِ، أوْ مع نفسه. فمعاملة الرَّبِّ فهو : فعل المأمُورَات، وترك المَنْهيَّاتِ.
قال ابْنُ مَسْعُودٍ : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيٍْ لازمةٌ؛ في الوُضُوءِ، والجَنَابَةِ، والصَّلاةِ، والزَّكَاةِ، والصَّوْم.
[ قال أبُو نُعِيْم الحَافِظُ في » الحِلْيَةِ « : ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع : البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ.
قالوا : الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ، في الوُضُوءِ، والجَنَابَة، والصّلاة، والزكاةِ، والصّوم، والكيل، والوزن، والودائع.
قال ابْنُ عبَّاسٍ : لم يرخص اللهُ لمُعْسِرِ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة ].
وقال ابْنُ عُمَرَ :» إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان، قال :« هذَا أمانةٌ [ خَبَّأتُهَا ] عِنْدَكَ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا ».