وأما الثالث : فإنَّ البَرَاءَة الأصْلِيَّة مَعْلُومَةٌ بحكم العَقْلِ، فارَّدُّ إليها لَيْسَ رَدَّاً إلى الله، وإذا رَدَدْنا حكْمَ الواقِعَةِ إلى الأحْكامِ المَنْصُوص عليها، كان ذلك رَدّاً إلى أحْكام الله - تعالى-.
فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس
دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الكِتَاب والسُّنَّة مُقدِّمان على القِياسِ مُطْلقاً، فلا نَتْرُك العَمَل بهما بِسَبَبِ القِياسِ، ولا يجوزُ تَخْصِيصُهَا ألْبَتَّة، سَوَاءً كان القِياسُ جَليَّا أو خَفيَّا، وسواءً كان ذلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصَاً قبل ذَلِك أمْ لاَ؛ لأن الله - تعالى - أمَر بطاعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في قوله :﴿ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول ﴾ سواء حَصَلَ قياسٌ يُعَارِضُهمَا أو يُخَصِّصُهُمَا، أوْ لم يُوجَد؛ ولأن قوله :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله ﴾ صريح بأنه لا يجوزُ العُدولُ إلى القياسِ، إلاَّ عند فُقْدان الأصُولِ الثلاثةَ، وأيضاً فإنَّهُ أخّر ذلك القياس عن ذِكْرِ الأصُولِ الثَّلاثَةِ، وذلك فُقْدان الأصُولِ الثلاثَةِ؛ ولأنَّ النَّبيَّ ﷺ اعْتَبَرَ هذا التَّرتيبَ في قِصَّةِ مُعَاذٍ، وأخر الاجتهاد عن الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وعَلَّقَ جَوازَهُ على عدمِ وُجْدَانِهِمَا، ولمَّا عَارَضَ إبْليسُ عموم الأمْرِ بالسُّجُودِ بِقياسِهِ في قوله :« خلقتني من نار وخلقته من طين » فخصَّ العُمُوم بالقياس، وقدَّمه على النَّصِّ، فصَار بهذا السَّبَبِ مَلعُوناً، وأيضاً فغن القُرْآن مَقْطُوع بِمتْنِهِ، والقِيَاسُ مَظْنُون من جميع الجهاتِ، والمَقْطُوع راجحٌ على المَظْنُون، وأيضاً العَمَلُ بالظَّنِّ من صِفَاتِ الكُفَّارِ في قولهم :﴿ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ]. ثم قال ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ [ النجم : ٢٣ ] وقال -عليه السلام- :« إذَا رُوِي عَنِّي حَدِيثٌ، فاعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللهِ، فإن وَافَقَهُ فاقْبَلُوهُ، وإلا فَرُدُّوهِ » فهذه النٌّصوصُ تَقْتَضِي، أن لا يجُوزُ العَمَلَ بالقِيَاسِ الْبَتَّةَ، وإنما عَمِلْنَا بالقِيَاسِ فيما لا نَصَّ فيه، ولا دلالة دَلَّت على وُجُوبِ العَمَلِ بالقِيَاسِ، جَمْعاً بَيْنَهَا وبين هذه الأدِلَّةِ. انتهى.
فصل في دلالة الآية على أكثر علم الأصول
دَلَّت هذه الآيةُ على أكْثَرِ أصُولِ الفِقْه؛ لأن أصُول الشَّريعَة هي الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجْماع والقياسُ، فقوله :[ تعالى ] « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول » إشارة للكِتَابِ والسُّنَّةِ، وقوله :« وأولي الأمر منكم » يدل على الإجماع؛ لأنه -تعالى- أوْجَب طَاعَةَ أولي الأمْر، وذلِك يَسْتَلْزمُ عِصْمَتَهُم عن الخَطَأ، وإلاَّ لَوجَبَ طاعَتُهُ عند كَوْنهِ مُخْطِئاً، واتِّبَاع الخَطَأ مَنْهِيٌّ عَنْه، فيجتمع الأمْرُ والنَّهْي [ وهو مُحَالٌ ] ؛ فَثَبتت العِصْمَةُ لأولِي الأمْرِ، إمَّا أن يكُونُوا جَميع الأمَرَاء، أو بَعْضَهُم، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونُوا بعضهُم؛ لأن الأمْرَ بِطَاعَتِهِم مَشْروطٌ بمعْرِفَتِهِم، والقُدْرَةِ على الاسْتِفَادِةِ مِنْهُم، ونحن عَاجِزُونَ قَطْعاً عن مَعْرِفَةِ الإمام المَعْصُوم والوُصُول إليْه؛ فوجَبَ أن يكُونَ المُرَادُ من ﴿ َأُوْلِي الأمر ﴾ أولي الحَلِّ والعَقْدِ من هَذِه [ الأمَّة ] وهو الإجْمَاعُ.