لما أوْجَبَ الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسولَ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره، و « الزَّعم » بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم، وإنما يُريدُون به اعتِقادٌ ظَنِّيٌّ؛ قال :[ الطويل ]
١٨١٤- فَإنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ | فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ |
وقال الأعْشى :[ المتقارب ]
١٨١٥- وَنُبِّئْتُ قِيْساً وَلَمْ أبْلُهُ | كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ |
١٨١٦- زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ | إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا |
قال الليث : أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون : زَعم فُلانٌ؛ إذَا شَكَّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق؛ وكذلك تَفْسِير قوله :﴿ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] أي : بقولهم الكَذِب.
قال الأصْمَعِيّ : الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرابِيّ : الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت :[ المتقارب ]
١٨١٧- وإنِّي أدينُ لَكُم أنَّهُ | سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمُ مَا زَعَمْ |
فصل : سبب نزول الآية
روي في سبب النُّزُولِ وُجُوه :
أحدُها : قال الشَّعْبِي : كان بَيْنَ رَجُلٍ من المُنَافِقِين خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ : نتحاكمُ إلى مُحَمَّد؛ لأنه عَرَفَ أنَّهُ عَرَفَ أنَّهُ لا يأخُذ الرَّشْوَة، ولا يَمِيلُ في الحُكْمِ، وقال المُنَافِقُ : نتحَاكمُ إلى اليَهُودِِ؛ لِعِلِمه أنَّهم يأخذُون الرَّشْوَة ويميلُون في الحُكْمِ، فاتَّفَقَا على أن يَأتِيَا كَاهِناً في جُهَيْنَةَ، فَيَتَحَاكَمَا إلَيْه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية.
قال جابر : كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة، ووَاحِدٌ في أسْلَم، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ كَهَّان.
وروى الكَلْبِي عن أبِي صَالِح عن ابن عبَّاسٍ : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من المُنَافِقِين يُقال لَهُ : بشر، كان بَيْنَهُ وبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ : نَنْطَلِقُ إلى مُحَمَّد، وقال المُنَافِق : بل إلى كَعْبِ بن الأشْرَف، وهُوَ الذي سَمَّاهُ اللهُ طاغُوتاً، فأبَى اليَهُودِيُّ أن يُخَاصِمَه إلاَّ إلى رسُول الله ﷺ، فلما رَأى المُنَافِق ذَلِك، أتَى معه إلى رسُول الله ﷺ، فَقَضَى رسُولُ الله ﷺ لليهُوديِّ، فلما خَرجَا من عِنْدِه، قال المُنَافِقُ : لا أرْضَى [ بهذا الحكم ] فانْطلقْ بِنَا إلى أبِي بكْرٍ، فحكم لليَهُودِيُّ، فلم يَرْضَ، ذكره الزَّجَّاج.