لما أمر اللَّه بطَاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رسُولِهِ بقوله :﴿ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ] ثم زيَّف طريقَةَ المُنَافِقِين، ثم أعَادَ الأمْر بطَاعَةِ الرَّسُول بقوله - [ تعالى ] - :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ ﴾ ورغَّب في تِلْك الطَّاعَةِ بإيتَاءِ الأجْرِ العَظيمِ، وهداية الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم، أكد الأمْرَ بالطَّاعَة في هَذِه الآيَةِ مَرَّة أخْرَى، فقال :﴿ وَمَن يُطِعِ الله والرسول ﴾ الآية، وقال القُرْطبيّ : لما ذكر اللَّه -تعالى- الأمْر الذي لو فَعَلَهُ المُنافِقُون حِين وعظُوا به وأنَابُوا إليه، لأنْعَمَ عليهم، ذكر بعد ذَلِك ثَوابَ من يَفْعَلهُ.
فصل : سبب نزول الآية
قال جماعة من المفسِّرِين :« إن ثَوبَان مَوْلى رسُول الله ﷺ كانَ شَديد الحُبِّ لرسُولِ الله ﷺ قليل الصَّبْر عن فِراقِهِ، فأتَاهُ يَوماً وقد تَغَيَّر لًوْنُه، ونحلُ جسمُه، وعُرف الحُزْن في وَجْهِه، فقال [ له ] رسُول الله ﷺ [ ما غيَّر لَوْنَك؟ فقال : يا رسول الله ] مَا بِي من وَجَع غيْرَ أنِّي إذا لمْ أرَكَ، اسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَديدةً حَتَّى ألقاك، فَذَكَرْتُ الآخِرَة فَخِفْتُ إلاَّ أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأنك تُرفعَ مع النبييِّن [ والصِّدِّيقين ]، وإني إن أدخِلْتُ الجَنَّة، كنت في مَنْزَلةٍ أدْنَى من مَنْزِلَتِك، وإن لَمْ أدْخُلِ الجَنَّة، فلا أرَاكَ أبَداً »، فنزلَتْ [ هذه ] الآيَةَ.
وقال مُقَاتل : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من الأنْصِارِ، قال للنَّبِي ﷺ يا رسُولَ الله، إذا خَرَجْنَا من عِنْدِك إلى أهْلِينَا اشْتَقْنَا إليك، فما يَنْفَعُنَا شيء حتَّى نَرْجع إلَيْك، ثم ذَكَرْتُ درجَتَكَ في الجَنَّة، فكيف لَنَا بِرُؤْيَتك إن دَخَلْنَا الجَنَّة، فنزَلتْ هذه الآيةُ، فلما تُوُفِّي النَّبي ﷺ قال : اللَّهُمَّ أعْمِنِي حّتَّى لا أرَى شَيْئاً بَعْدَهُ إلى أنْ ألقاه؛ فعَمِيَ مَكَانَهُ، فكان يُجِبُّ النبي حُبّاً شديداً، فجعله الله مَعَهُ في الجَنَّةِ.
قال المُحَقِّقُون : لا تنكَرُ صحَّة هَذِهِ الرَّوَايَات؛ إلا [ أن ] سَبَب النُّزُّول يجب أن يكون شَيْئاً أعْظَم من ذَلِك، وهو الحَثُّ على الطَّاعَةِ والتَّرغِيب فيهَا، فإن خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفَظِ، فالآيةُ عامَّةٌ في حَقِّ جميع المكلَّفين، والمَعْنَى : ومَنْ يُطِع الله في أدَاءِ الفَرَائِضِ، والرَّسُولَ في السُّنَنِ.
فصل
ظاهر قوله :﴿ وَمَن يُطِعِ الله والرسول ﴾ يوجب الأكْثَر بالطَّاعَة الوَاحِدَة، لأنَّ اللَّفْظَ الدالَّ على الصِّفَةِ يكفي فقي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُول ذَلِكَ المُسَمَّى مَرَّة وَاحِدَة.
قال القَاضي : لا بد من حَمْلِ هَذَا على غير ظاهره، وأن تُحْمَل الطَّاعَة على فعل المأمُورَاتِ وتَرْك جَمِيع المنْهِيَّات؛ إذ لو حَمَلْنَاهُ على الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يأتُونَ الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يَأتونَ الطَّاعَةَ الوَاحِدَة.
قال ابن الخَطِيب : وعِنْدِي فيه وَجْهٌ أخَرَ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ، أن الحُكْمَ المَذْكُور عَقِيب الصِّفَةِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ ذلك الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوَصْفِ، وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول : قوله :﴿ وَمَن يُطِعِ الله ﴾ [ أي : ومن يُطِع الله ] في كَوْنِهِ إلهاً، وذَلِكَ هو مَعْرِفَتُه والإقْرَار بِجَلاَلَهِ وعِزَّتِه وكبْرِيَائِه [ وقُدْرَته ]، ففيها تَنْبِيهٌ على أمْرَيْن عظيمين مِنْ أمُور المَعَاد :
الأوّل : منشأ جَميع السَّعَاداتِ يوم القيامَة وهُو إشْرَاق الروح بأنْوَارِ معْرفته تعالى، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكْثَر، وصَفَاؤُهَا أقْوَى، وبُعْدُها عن التكَدُّر بعالم الأجْسَام، كان إلى الفَوْزِ بالنجاة أقرب.