وأيضاً فإن المُؤمِن قد يَقُول : اللَّهُم ارْزُقْنِي الشَّهَادَة فلو كانت الشَّهَادَةُ عِبَارَة عن قَتْلِ الكَافِرِ إيَّاه، لكَان قد طَلَبَ من الله ذَلِكَ القَتْل، وهو غَيْر جَائِزٍ؛ لأنَّ صُدُور [ ذلك ] القَتْلِ من الكَافِرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَجُوز أن يَطْلُب من الله ما هو كُفْرٌ، وأيضاً قال- ﷺ - :« المَبْطُونُ شَهِيدٌ، والغَرِيقُ شَهِيدٌ »، فَعَلِمْنَا أن الشَّهَادَةَ لَيْسَت عِبَارَة عن القَتْل، بل نَقُول : الشَّهيدُ :« فَعِيلٌ » بمعنى « الفاعِل »، وهو الَّذي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ديِن اللهِ تارةً بالحُجَّة والبَيَان، وأخْرَى بالسَّيْف والسِّنَان، فالشُّهَدَاءُ هم القَائِمُون بالقِسْط، وهم الَّذِين ذَكَرَهُم الله - تعالى- في قوله :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط ﴾ [ آل عمران : ١٨ ] يُقَال للمَقْتُول في سَبِيلِ الله : شَهِيدٌ؛ من حَيْثُ إنَّه بذل نَفْسَهُ في نُصْرَة دِين الله، وشَهَادَتهِ له بأنَّه هو الحَقُّ، وما سِوَاهُ هو البَاطِل.
وأمّا الصَّالِحُون : فقد تَقَدَّم قول عِكْرِمَة : إنهم بَقِيَّة الصحابة وقيل : الصَّالِحُ من كان صَالِحاً في اعْتِقَادِه وفي علمه.
قوله :﴿ وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً ﴾ في نصب رَفيقاً قَوْلان :
أحدُهُمَا : أنه تَمْيِيزٌ.
والثاني : أنه حَالٌ، وعلى تَقْدِير كَوْنِهِ تَمْييزاً، فيه احْتِمَالاَن :
أحدهما : أن يكون مَنْقُولاً من الفَاعِلِيَّة، وتَقْديره : وَحَسُن رَفيِقُ أولَئِك، فالرَّفِيقُ على هَذا هذا غير لمُمَيَّز، ولا يجُوزُ دُخُولُ « مِنْ » عليه.
والثاني : ألاَّّ يكون مَنْقُولاً، فيكون نَفْسُ المُمَيَّز، وتدخل عليه « مِنْ »، وإنَّمَا أتَى به هُنَا مفرداً؛ لأحَد مَعْنَيَيْن :
إما لأن الرَّفِيق كالخَلِيطِ والصَّدِيقِ والرَّسُولِ والبريد، تذهب به العَرَي إلى الوَاحِدِ والمُثَنَّى والمَجْمُوع؛ قال- تعالى- :﴿ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾ [ الشعراء : ١٦ ] وهذا إنَّما يَجُوز في الاسْم الّذي يكُون صِفَةً، أمَّا إذا كَانَ اسماً مُصَرَّحاً كرَجُلِ وامْرَأة لم يَجْزْ، وجوَّز الزَّجَّاج ذَلِك في الاسْمِ أيْضاً، وزعم أنه مَذْهَب سِيبَويْه.
والمعنى الثَّاني : أن يكون اكْتَفَى بالوَاحِدِ عن الجَمْعِ لفهم المَعْنَى، وحَسَّن ذَلِكَ كَوْنِه فَاضِلة، ويَجُوز في « أولئك » أن يكون إشَارَة إلى [ النبيين ومن بَعْدَهُم، وأن يكُون إشارَةً إلى ] مَنْ يُطِع الله وِرسُوله، وإنما جُمِعَ على مَعْنَاهَا؛ كقوله [ تعالى ] :﴿ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾ [ الحج : ٥ ] وعلى هذا فَيُحْتَمَل أن يُقال : إنه رَاعَى لَفْظُ [ « مِنْ » ] فأفْرَد في قوله « رفيقاً »، ومَعْنَاها فجمع في قوله :« أولئك » إلا أن البَدَاءَة في ذلك بالحَمْل على اللَّفْظِ أحسن، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فِيهَا بين الحَمْل على اللَّفْظِ في « يَطِعْ » ثم على المَعْنَى في « أولئك » والجمهُور على فتح الحَاءِ وضمّ السّين من « حَسُنَ ».
وقرأ أبو السَّمَّال : بفتحها وسُكُون السِّين تَخْفِيفَاً، نحو : عَضْد في : عَضُد، وهي لُغَةُ تَمِيم، ويَجُوز « حُسْ »، بضم الحَاءِ وسُكُون السين، كأنهم نَقَلُوا حركة العَيْنِ إلى الفَاءِ بعد سَلْبِهَا حَرَكَتِها، وهذه لُغَة بَعْضِ « قَيْس »، وجعل الزَّمَخْشَرِيّ هذا من بَابِ التَّعَجُّيَّ؛ فإنه قال : فيه معنى التَّعَجُّب، كأنه قيل : وما أحْسَنُ أولَئِكَ رَفِيِقَاً، ولاسْتِقْلاَلَه بمعنى التَّعَجُّب.


الصفحة التالية
Icon