قال الكَلْبِي :« نزلت في عَبْد الرَّحْمن بن عَوْف الزُّهرِيِّ، والمقدَادِ بن الأسْود الكندي، وقدامة بن مَظْعُون الجُمَحِي، وسَعْد بن أبِي وَقَّاصٍ، وجَمَاعة كانوا مع النَّبِيِّ ﷺ قَبْض ان يهاجروا إلى المَدِينَةِ، ويَلْقُون من المُشْرِكِين أذًى شَديداً، فَيَشْكُون ذلك إلى الرَّسُول، ويقولون : ائْذَن لَنَا في قِتَالِهِم، ويقول لَهُم الرَّسُول : كُفُّوا أيْدِيَكُم، فإني لَمْ أومَر بقتالهِمْ، واشْتَغِلُوا بإقَامَة دينكُم من الصَّلاة والزَّكَاة، فلمَّا هَاجَر رسُول اللَّه ﷺ إلى المدينَةِ، وأُمِرَ بقتالهم في وَقْعَة بَدْرٍ، كرهه بَعْضُهم وشقَّ عَلَيْه، » فأنزل اللَّه -تعالى- هذه الآية. فَذَهَب بَعْضُهم إلى أنَّهَا نَزَلَت في المُؤمَِنين، واحتجُّوا : بأنَّ الَّذَين يَحْتَاج الرَّسُول إلى أن يَقُولَ لهم كَفُّوا عن القِتَال، هُم الرَّاغِبُون في القِتَالِ؛ وهم المُؤمِنُون.
ويمكن الجوابُ عنه : بأنَّ المُنَافِقِين كانوا يُظْهِرُون أنَّهم مؤمِنُون، وأنَّهم يريدُونَ قِتال الكُفَّار، فلما أمر اللَّهُ بقتالِهم الكُفَّار، أحجم المُنَافِقُون عَنْه، وظهر مِنْهُم خِلاف ما كَانُوا يَقُولُونَهُ.
وقيل : نزلت في المُنَافِقِين، واحتجُّوا بأنَّ الله -تعالى- وَصَفَهم بأنَّهم ﴿ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾، وهذا الوصف لا يَلِيقُ إلا بالمُنَافِقِ؛ لأن المُؤمِن لا يَخَاف من النَّاسِ اشَدَّ من خوفِهِ من اللَّه، وأيضاً قولهم :« ربنا لم كتبت علينا القتال » اعتراضٌ على اللَّه -تعالى-، وذلك من صِفَة الكُفَّار والمُنَافِقِين، وأيضاً قوله -تعالى- للرَّسُول :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى ﴾ وهذا الكلام إنَّما يذكر لمن كانت رَغبتهُ في الدُّنْيَا أكْثَر من رَغْبَته في الآخِرة، وذلك من صِفَاتِ المُنَافِقِين.
وأجاب القَائِلُون بالقَوْل الأوَّل : بأن حُبَّ الحياة والنَّفرة عن القَتْلِ من لَوَازِمِ الطَّبْع؛ فهذه الخَشْيَة مَحْمُولة على هذا المَعْنَى، وقولهم :« لِمَ كتبت علينا القتال » محمولة على التمَنِّي بتخفيف التَّكْلِيف، لا على وَجْه إنْكَار [ لإيجَابِ ] اللَّه -تعالى-.
وقوله [ -تعالى- ] :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ ﴾ ذكره ليهَوِّن على القَلْبِ أمر هذه الحَيَاةِ؛ لكي تزول عن قَلْبِه نَفْرَة القِتَالِ وحُبُّ الحَيَاة، ويُقْدِمُون على الجِهَاد بقلب قَوِيٍّ، لا لأجْل الإنْكَار.
وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا رَاسِخين في العِلْم، قالوه خوفاً وجُبْناً لا اعتقاداً ثم تابوا، وأهْلُ الإيمان يتفاضَلُون في الإيمَانِ.
وقيل : كانوا مُؤمنين، فلما كُتِبَ [ عليهم ]، أي : فرض عليْهِم القِتَال، تلفقوا من الجُبْنِ، وتخلَّفُوا عن الجِهَاد، والأوْلى حَمْل الآية على المُنَافِقِين، لأنه -تعالى- ذكر بَعْد هذه الآية قوله :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ ﴾ [ النساء : ٧٨ ] ولا شَكَّ أنَّ هذا من كَلاَم المُنَافِقِين.

فصل


دلَّت الآيَة على أن إيجَاب الصَّلاة والزَّكاة، كان مُقَدَّماً على إيجَاب الجِهَاد.
قوله ﴿ إِذَا فَرِيقٌ ﴾ :« إذا » هنا فُجَائِيَّة، وقد تقدَّم أن فيها ثلاثة مَذَاهِب :
أحدُها- وهو الأصَحُّ : أنها ظَرْف مكان.


الصفحة التالية
Icon