و « أشدَّ » مَعْطُوف على الحَالِ؛ قاله الزمخشري، ثم قال :« فإنْ قُلْتَ : لِمَ عَدَلْتَ عن الظَّاهِر، وهو كَوْنُه صِفة للمَصْدَر ولم تُقَدِّرْه : يَخْشون خَشْية مثل خَشْيَة الله، بمعنى : مثل ما يَخْشَى الله.
قلت : أبَى ذلك قوله :» وأشد خشية « ؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حُكْمٍ واحدٍ، ولو قلت :» يخشون الناس أشد خشية « لم يكن إلا حَالاً من ضَمِير الفريقِ، ولم ينتَصِب انتِصَابَ المَصْدَر؛ لأنك لا تَقُول :» خَشِي فُلانٌ أشَدَّ خشيةً « فتنْصِبُ » خشية « وأنْتَ تريد المَصدر، إنَّما تَقَول :» أشدَّ خَشْيةٍ « فتجرُّها، وإذا نَصَبْتَها لم يكن » أشدَّ خشيةً « إلا عِبَارةً عن الفاعل حالاً منه، اللَّهم إلا أن تجعل الخَشْيَة خَاشِيةً على حدِّ قولهم :» جَدَّ جَدُّه « فتزعم أنَّ مَعْنَاه : يخشون الناسَ خَشْيَةً مثل خشيةٍ أشدَّ خَشْيَة من خَشْيَة الله، ويجُوز على هذا أن يكُون مَحَلُّ » أشدَّ « مَجْرُوراً، عطفاً على » خشية الله « تريد : كَخَشْيَة الله، أو كَخَشْيَةٍ أشدَّ منها ». انتهى.
ويجوز نصبُ « خشيةً » على وجْه آخَر؛ وهو العَطْف على مَحَلِّ الكَافِ، وينتصب « أشدَّ » حينئذ على الحَالِ من « خَشْيَة » ؛ لأنه في الأصْلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها، والأصل : يَخْشَوْن النَّاسَ مثلَ خَشْيَةِ الله أو خَشْيَةً أشدَّ منها، فلا ينتصب « خَشيَة » تمييزاً، حتى يَلْزَم منه ما ذكره الزَّمَخْشَرِي ويُعْتذر عنه، وقد تقدَّم نحو من هذا عِنْد قوله :﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]. والمصدرُ مُضَاف إلى المَفْعُول والفَاعِل مَحْذُوف، أي : كَخشيتهم اللَّهَ.
فإن قيل : ظاهر قوله :﴿ أَوْ أَشَدَّ ﴾ يوهم الشَّكَّ، وذلك محالٌ على الله -تعالى-.
فالجواب : يحتمل الأوْجُه المذكورة في قوله ﴿ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ ويجوز أن تكون للتنويع، يعني : أن منهم من يخشاهم كخشية الله، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله.
قال ابْنُ الخَطِيب : وفي تأوِيله وُجُوهٌ :
الأوَّل : المُراد مِنْه : الإبْهَام على المُخَاطَب، بمعنى أنَّهم على أحَد الصِّفَتَيْن من المُسَاواة والشدّة؛ وذلك لأنَّ كُلَّ خَوْفَيْن فأحدُهُما بالنِّسْبة إلى الآخَر : إمَّا أن يكُون مُسَاوِياً، أو أنْقَص، وأزيد، فَبيَّن -تعالى- بهذه الآية أن خَوْفَهم من النَّاس ليس أنْقَص من خَوْفِهم من الله -تعالى-، بل إمَّا أن يكون مُسَاوِياً أوْ أزْيَد، وذلك لا يُوجِب كَوْنه -تعالى- شاكَّا، بل يُوجِب إبْقاء الإبْهَام في هَذَيْن القِسْمَيْن على المُخَاطَب.
والثاني : أن يكون « أو » بمعنى الوَاوِ، والتَّقْدِير : يخْشَوْنهم كَخَشْيَة اللَّه وأشَد خشية، ولَيْس بَيْن هذيْن القِسْمَيْن مُنَافَاة؛ لأنَّ من هُو أشَدّ خَشْية، فَمَعَه من الخشية مِثْل خَشْية اللَّه [ وزيادة ].
الثَّالث : أن هذا نظير قوله :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾