وقيل : ثَمَّ قولٌ مقدَّر، أي : لا يكَادُونَ يَفْقهون حَدِيثاً يَقُولون : ما أصَابَكَ.
وقرأت عائشة :« فَمَنْ نَفْسُكَ » بفتح ميم « من » ورفع السِّين، على الابتداء والخَبَر، أيّ شيءٍ نَفْسُك حَتَّى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟.
قوله :« رسولاً » فيه وَجْهَان :
أحدُهُما : أنه حالٌ مؤكِّدة.
والثاني : أنه مَصْدر مؤكِّدٌ بِمَعْنَى إرسال، وِمنْ مَجِيء « رَسُول » مَصْدراً قوله :[ الطويل ]

١٨٤١- لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي : بإرسال، بمعنى رِسَالة. و « للناس » يتعلق ب « أرسلناك »، واللاَّم للعِلَّة، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ حَالاً من « رسولاً » كأنه جَعَله في الأصْلِ صِفَةً للنَّكِرَة، فقُدِّم عليها، وفيه نَظَر.

فصل


قال الجُبَّائِيُّ : قد ثَبتَ أنَّ لَفْظَ السِّيِّئَة يقع على البَلِيَّةِ والمِحْنَة، وتارة يقع على الذَّنْب والمَعْصِيَة، ثم إنَّه -تعالى- أضَافَ السِّيِّئَة إلى نَفْسِهِ في الآية الأولَى بقوله :﴿ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله ﴾، وأضَافَها في هذه الآيَةِ إلى العَبْد بِقَوْله :﴿ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ ولا بُدَّ من التَّوْفِيقِ بين الآيَتَيْنِ؛ فنقول : لمَّا كانت السَّيِّئَةُ بمكعنى البَلاَءِ والشِّدَّة مُضَافَة إلى الله، وجب أن تَكُون السِّيِّئَةُ بمعْنَى المُصِيبَة مُضَاَفة إلى العَبْدِ؛ ليزُول التَّنَاقُضُ بين هَاتَيْنِ الآيَتَيْن المُتَجَاوِرَتَيْن، وقد حَمَل المُخَالِفُون أنْفُسَهم على تَغْيِير الآيَةِ، وقرأوا :« فمن نفسك » فَغَيَّروا القُرْآن، وسلَكُوا مثل طريقَةِ الرَّافِضَة في ادِّعاءِ التَّغْيير في القُرْآن.
فإن قيل : إن الحسَنَة وإن كَانَت من فِعْل العَبْد، فإنَّما وَصَل إلَيْهَا بتسْهِيله وألْطَافِه، فصَحَّت الإضَافَةُ إلَيْه، وأمَّا السَّيِّئة، فَهِي غير مُضَافَةٍ إلى الله -تعالى- بأنَّه [ مَا ] فَعَلَها، ولا أرَادَهَا، ولا أمَرَ بِهَا، ولا رَغَّبَ فيهَا. فلا جَرَم انْقَطَعَتْ هذه النِّسْبَة إلى الله تعَالى من جَمِيعِِ الوُجُوهِ.
قال ابن الخَطِيبِ : والجَوابُ : أن هذه الآيَةَ دلَّت على أنَّ الإيمَان حَصَل بتَخْلِيق الله -تعالى- : لأن الإيمَان حَسنَةٌ [ والحَسَنَة ] هي الغِبْطَةَ الخَالِيَةُ عن جَمِيعِ جِهَاتِ القُبْحِ، والإيمان كَذَلِكَ؛ فوجب أن تكُون حَسَنة؛ لأنَّهم اتَّفَقُوا على أنَّ قوله ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله ﴾ [ فصلت : ٣٣ ] أن المُرادَ به : كلمة الشَهَادة، وقيل في قوله :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان ﴾ [ النحل : ٩٠ ] قيل : هو قَوْل لا إلَه إلاَّ الله؛ فَثَبت أنَّ الإيمان حَسَنَة، وإنما قُلْنَا : إن كل حَسَنَةَ من الله؛ لقوله -تعالى- :﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله ﴾ وهذا يفيد العُمُوم في جَميع الحَسَنَاتِ، وإذا ثَبَت أنَّ الإيمان حَسَنة، وكُلُّ حسنة من الله، وجب القَطْع بأنَّ الإيمَان من اللهِ.
فإن قيل : لم لا يجُوز أن يكون المُرَادُ من قوله :« من الله » هو أنَّ الله قدَّرَه عَلَيْه، وهَدَاه إلى مَعْرَفَة حُسْنهِ، وإلى مَعْرِفَة قُبْحِ ضِدّه الذي هو الكُفر.
قُلْنَا : جميع الشَّرَائِطِ مُشْتَرَكَةٌ بالنِّسْبَة إلى الإيمَانِ والكفر عندكم ثمَّ إنَّ العَبْد باخْتِيَار نَفْسِه أوْجد الإيمان، ولا مَدْخل لِقُدْرة الله وإعانَتِه في نَفْس الإيمَانِ، فكان الإيمَانُ مُنْقَطِعاً عن الله - [ تعالى ] - من كل الوُجُوهِ، فكذا هَذَا مُنَاقِضاً لقوله :﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله ﴾ ؛ فثبت لدلاَلَة هذه الآية أن الإيمان من الله، والخُصُوم لا يَقُولُون به، وأمَّا بيان أنَّ الكُفْر من اللهِ فَلوُجُوه :
أحدُهَا : أن كُلَّ من قَالَ : الإيمانُ من الله قال الكُفْر من الله؛ فالقَوْل بأحَدِهِمَا من الله -تعالى- دُون الآخَرِ- مخالِفٌ لإجْمَاع الأمَّةِ.


الصفحة التالية
Icon