وهذا نوع آخر من أعْمَال المُنَافِقِين الفَاسِدة، وذَلِك أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كان يَبْعَث السَّرايا فإذا غَلَبُوا أو غَُلبُوا بَادَرَ المُنَافِقون يستَخْبِرونَ عن حَالِهَم، فَيُفْشُون ويُحَدِّثُون به قَبْل أنْ يُحْدِّثَ به رسُول الله ﷺ فَيُضْعِفُون به قُلُوبَ المُؤمِنين، فأنْزَل الله -تعالى- ﴿ وَإِذَا جَآءَهُمْ ﴾ يعني : المُنَافِقِين « أمر من الأمن » أي : الفَتْح والغَنِيمَة « أو الخوف » أي : القتل والهزيمَة « أذاعوا به » أشاعُوه وأفشوْه، وذلك سَبَبٌ للضَّرر من وُجُوهٍ :
أحدها : ان مَثْل هذه الإرْجَافَات لا تنفَكُّ عن الكَذِب.
وثانيها : إن كان ذلك الخَبَر من جَانِبِ الأمْن زَادُوا فيه زِيَادات كَثِيرة، [ فإذا لَمْ تُوجد تلك الزَّيَادات، أوْرَث ذلك شُبْهَة للضُّعَفَاءِ في صدق الرَّسول -عليه السلام- ] ؛ لأن المنافِقِين كانوا يروون تلك الإرْجَافَات عن الرسُول، وإن كان ذَلِك الخَبَر خَوْفاً، تشوَّشَ المر على ضُعَفَاء المُسْلِمين بسبَبِه، ووقعوا في الحَيْرَة والاضْطراب، فكان ذلك سَبَباً للفِتْنَة.
وثالثها : أن العَداوَة الشَّدِيدة كانت قَائِمَةً بين المُسْلِمين وبين الكُفَّار، فكان كلّ وَاحِد من الفريقين مُجدًّا في إعْداد آلات الحَرْب وانْتِهَاز الفُرْصَة، فكل ما كان [ أمْناً ] لأحد الفَرِيقَيْن، كان خَوْفاً للفَريقِ الثَّانِي، وإن [ وقع خَبر الأمْن للمُسْلِمين، أرجَفَ بذلك المُنَافِقُون، فوصل الخَبَر في أسْرَع مُدَّة إلى الكُفَّار؛ فاحارزوا وتحصَّنُوا من المُسْلمين، وإن ] وَقَعَ خبر الخَوْف للمُسْلِمِين بالَغوا في ذلك وزادوا فيه، وألْقوا الرُّعب في قُلُوب الضَّعْفَة، فظهر أن الإرْجَافَ مَنْشَأ الفِتَنِ والآفَاتِ.
قوله :﴿ أَذَاعُواْ بِهِ ﴾ : جواب إذا، وعَيْنُ أذَاعَ ياء؛ لقولهم : ذاع الشَّيء يذِيع، ويُقال : أذاع الشَّيْء، أيضاً بمعنى المُجَرَّد، ويكونُ متعدِّياً بنفسه وبالبَاءِ، وعليه الآيةُ الكريمة، وقيل : ضَمَّن « أذاع » مَعْنَى « تَحَدَّثَ » فعدَّاه تعديتَه، أي : تحدَّثوا به مُذيعين له، والإذاعة : الإشاعةُ، قال أبو الأسْوَد :[ الطويل ]
١٨٤٢- ب- أذَاعُوا بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأنَّهُ | بِعَلْيَاءَ نَارٌ أوقِدَتْ بِثُقُوبِ |
قوله :« لو ردوه » أي الأمْر، « إلى الرسول » أي :[ لَمْ ] يحدِّثوا به حَتَّى يكُون النَّبي ﷺ هو الذِي يُحدِّث به، و « إلى أولي الأمر [ منهم ] » أي : ذَوِي الرأي من الصَّحَابة؛ مثل أبي بكْر وعُمر وعُثْمَان وعلي، وقيل : أمَرَاء السَّرَايا؛ لأنَّهم الَّذِين لَهُم أمر على النَّاس، وأهل العِلْم لَيْسوا كذلِك.
وأجيب عن هَذَا : بأن العُلَمَاء يجبُ على غَيْرِهم قُبُول قولِهِم؛ لقوله -تعالى- :﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ] فأوجب الحَذَر بإنْذَارِهِم، وألزَم المُنْذرين قُبُول قولهم، فجاز لهذا المَعْنَى إطْلاق اسم أولي الأمْرِ عَلَيهم.