قوله :﴿ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ أي : يستخْرِجُونه، وهُم العُلَماء عَلِمُوا ما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَم، وما يَنْبَغِي أن يُفْشَى، والاسْتِنْبَاط في اللُّغَةِ : الاستِخْراج، وكذا « الإنباط » يقال : استَنْبَطَ الفَقِيهُ : إذا استَخْرَجَ الفِقْهَ البَاطِنَ باجْتِهَادِهِ وفهمه، وأصله من النّبط وهو الماءُ الذي يَخْرج من البَئْرِ أوّلَ حَفْرها قال :[ الطويل ]

١٨٤٣- نَعَمْ صَادِقاً والفَاعِلُ القَائِلُ الذي إذَا قَالَ قَوْلاً أنْبَطَ المَاءَ في الثَّرَى
ويقال : نَبَطَ المَاءُ يَنْبطُ بفتحِ البَاءِ وضمها.
والنبط أيضاً : جِيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات. ويقال في الرَّجُل الذي يكُونَ بعيد العِزِّ والمنعة :« ما يجِدُ عَدُوُّه لَهُ نَبَطاً ». قال كَعْبٌ :[ الطويل ]
١٨٤٤- قَرِيبٌ ثَرَاهُ مَا يَنَالُ عَدُوُّهُ لَهُ نَبَطاً، آبِي الْهَوَانِ قَطُوبُ
و « منهم » حَالٌ : إمَّا من الَّذِين، أو من الضَّمير في « يَسْتَنْبِطُونه » فيتعلق بمَحْذُوفٍ.
وقرأ أبو السَّمال :« لَعَلْمه » بسُكُون اللام، قال ابن عَطِيَّة : هو كتَسْكِين ﴿ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ النساء : ٦٥ ] وليس مِثْله؛ لأنَّ تسْكِين فعل بكَسْر العين مَقِيسٌ، وتسكينَ مَفْتُوحها شاذٌّ؛ ومثلُ تسكين « لَعَلْمَهُ » قوله :[ الطويل ]
١٨٤٥- فَإنْ تَبْلُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ مِنَ الأدمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وغَارِبُهْ
أي : دَبِرت، فِسَكَّن.

فصل معنى « يستنبطونه »


[ قيل المراد ب « يستنبطونه » : يَسْتَخْرِجونَهُ، وقال عِكْرمة : يَحْرِصُون عليه ويسألون عنه ]، وقال الضَّحَّاك : يتتبّعونه، يريد : الذين سَمِعُوا تلك الأخْبَار من المُؤمنين والمُنَافِقين، لو رَدُّوه إلى الرَّسُول ﷺ وإلى ذَوِي الرَّأي والعِلْم، لعلمه الذين يَسْتَنْبِطُونه، أي : يُحِبون أي يَعْلَمُوه على حَقِيقَتِهِ كما هُو.
وقيل : المُراد ب « الذين يستنبوطه » أولئك المُنَافِقُون المُذِيعُونَ، والتقدير : ولو أن هؤلاء المُنَافِقِين المُذِيعِينَ رَدُّوا أمر الأمْنِ والخَوْف إلى الرَّسُول وإلى أولي الأمْر، وطلبوا مَعْرِفَة الحَالِ [ فيه ] من جهتِهم، لعلمه الَّذين يستَنْبِطُونه مِنْهُم و [ هم ] هؤلاء المُنَافِقُون المُذِيعُون منهم، أي : من جَانب أولي الأمْر [ منهم ].
فإن قِيلَ : إذا كَان الَّذين أمَرَهُم الله -تعالى- برد هذه الأخْبَارِ إلى الرَّسُول وإلى أولي [ الأمر مِنْهُم وهم المُنَافِقُون، فكَيف جَعَل أولي الأمْر منهم في قوله :﴿ وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ ﴾.
الجواب : إنما جَعَل أولي ] الأمْر مِنْهُم على حَسَب الظَّاهِر؛ لأن المُنَافِقين يظْهِرُون من أنفسهم أنَّهم مؤمِنُون، ونَظِيرُه :﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ﴾ [ النساء : ٧٢ ] وقوله :﴿ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ النساء : ٦٦ ].
قوله :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً ﴾
قال أبو العَباس [ المُقْرِئ ] : وَرَدَت الرَّحْمَة [ في القُرْآن ] عَلَى سَبْعَة أوجه :
الأوّل : القُرْآن، قال -تعالى- :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ أراد بالفَضْلِ الإسْلام، وبالرَّحْمَة القُرْآن.
الثاني : بمعنى الإسْلام؛ قال -تعالى- :﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ [ الإنسان : ٣١ ] أي : في الإسلام [ ومثله ﴿ ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ [ الشورى : ٨ ] أي : في دين الإسلام ].
الثالث :[ بمعنى ] : الجنة؛ قال -تعالى- :﴿ أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي ﴾


الصفحة التالية
Icon