[ العنكبوت : ٢٣ ] أي : من جَنَّتِي.
الرَّابع : المَطَر؛ قال -تعالى- :﴿ يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [ الأعراف : ٥٧، النمل : ٦٣ ].
الخامس : النِّعمة؛ قال -تعالى- :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾.
السادس : النبوة؛ قال -تعالى- :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ]، أي : النُّبُوَّة.
السابع : الرِّزْق؛ قال -تعالى- :﴿ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ ﴾ [ فاطر : ٢ ] : من الرِّزْقِ؛ ومثله ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا ﴾ [ الإسراء : ٢٨ ] أي : رِزْقاً.
فصل
اعلم : أن ظَاهِر هذا الاسْتِثْنَاء يوهِمُ أنَّ ذلك القليل وَقَع لا بِفَضْل الله ولا بِرَحْمَتِه، وذلك محال.
قوله :« إلا قليلاً » ذكر المفسَِّرُونَ فيها عشرة أوجه :
الأول : قال بعضهم : إنه مُسْتَثْنَى من فَاعِل « اتبعتم » أي : لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم، فإنه لم يتَّبع الشَّيْطَان، على تقدِير كَوْن فَضْل الله لم يأته، ويكونُ أرادَ بفضل الله الإسلام وإرسَالَ محمَّد ﷺ، ويكون قوله :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان ﴾ كلام تامٌّ، [ وذلك القَلِيلُ؛ كقِسٍّ بن سَاعِدة الإيَادِي، وزَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل، وورقة بن نوفل، وجماعة سِوَاهم مِمَّن كان على دِين المَسِيحِ قَبل بَعْثَةِ الرسول ].
وقال أبو مُسْلم : المراج بِفَضْل الله ورحمته في هذه الآية : هو نُصْرتهُ ومعُونتهُ اللَّذان تمنَّاهُما المُنَافِقُون؛ بقولهم :﴿ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ٧٣ ] بيَّن -تعالى- أنّضه لولا حُصُول النَّصْر والظّفَرِ على سبيل التَّتَابُع، لاتَّبَعْتُم الشَّيْطَان وتركتم الدين إلاَّ قليلاً مِنْكُم، وهم أهْل البَصَائِر النَّافِذة، والنِّيَّات القويَّة، والعَزَائم المُتَمكِّنَةِ من أفَاضِل المُؤمِنِين، الذين يَعْلَمُون أنه لَيْس من شَرْطِ كونه حَقّاً هو الدَّوْلَة في الدُّنْيَا، فلأجل تَوَاتُر الفَتْح والظَّفر في الدُّنْيَا يدل على كَوْنه حَقاً؛ ولأجل تواتر الهَزِيمَة والانكِسَار يدلُّ على كونه بَاطِلاً، بل الأمْر في كونه حَقاً وباطلاً على الدَّلِيل، وهو أحْسَن الوُجُوه.
[ وقيل : المُرَادُ مَنْ مَنْ لم يَبْلغ التكْلِيف، وعلى ذها التَّأويل قيل : فالاستثْنَاء مُنْقَطِع؛ لأن المُسْتَثْنَى لم يَدْخُل تحت الخِطَاب، وفيه نظر يظهر في الوَجْهِ العَاشِر.
الثاني : أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل « عَلِمه » أي : لعلمه المُسْتَنْبِطُون منهم إلا قَلِيلاً ].
قال الفرَّاء والمبرد :[ وأما ] القَوْل بأنَّه مستَثْنى من فاعل « أذاعوا » أوْلى من هَذَا؛ لأن ما يُعْلَم بالاسْتِنْبَاطِ؛ فالأقلُّ يعلمُه والأكْثَر يجهله، وصرف الاسْتشثْنَاء إلى المسْتَنْبِطِين يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِك.
قال الزَّجَّاج : هذا غَلَطٌ؛ لأنه لَيْسَ المراد من هَذَا الاستِثْنَاء شيئاً يَسْتَخْرِجُه بنظر دَقيق وفكْرٍ غَمِضٍ، إنما هو اسْتِنْبَاط خَبَر، وإذا كَانَ كَذَلِك فالأكثرون يَعْرِفُونه إنَّما البالغ في البَلاَدة والجَهَالة هُو الَّذي لا يَعْرِفُه، ويمكن أن يُقَال : كلام الزَّجَّاج إنما يَصِحُّ لو حَمَلْنا الاسْتِنْبَاطَ على مُجَرَّد تعرُّف الأخْبَارِ والأرَاجِيف، [ أمَّا ] إذا حملناه على الاسْتِنْبَاطِ في جَميع الأحْكَام، كان الحَقُّ ما ذكره الفَرَّاء والمُبرِّد.
الرابع : أنه مُسْتَثْنَى من فاعل « لوجدوا » أي : لوجدوا فيما هَو من عِنْد غير الله التناقض إلا قليلاً مِنْهُم، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ، فيظنُّ البَاطِلَ حقاً والمتناقضَ مُوَافِقاً.