والمراد بالكفل : الوِزْر.
قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ : المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض، فإن كان في ما يَجُوز، فهو شَفَاعة حَسَنَة، وإن كان فِيمَا لا يجُوز، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة.
قال ابن الخَطيب : هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد، وإلاَّ صَارَت الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ.
« والكفل » : النَّصِيب، إلا أنَّ استعماله في الشَّرِّ أكثرن عكس النصيب، وأنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخَيْرِ، قال تعالى :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ [ الحديد : ٢٨ ] وأصلُه قالوا : مُسْتَعَارٌ مِنْ كِفْلِ البَعير، وهو كساء يُدَارُ حَوْلَ سِنَامِهِ ليُرْكَبَ، سُمِّي بِذَلِك؛ لأنَّه لم يَعُمَّ ظهرهَ كُلَّه بل نَصِيباً منه، ولغلبةِ استِعْمَالِه في الشَّرِّ، واستعمال النَّصِيب في الخير، غاير بَيْنَهُمَا في هذه الآيَة الكَريمة؛ إذ أتى بالكِفْل مع السَّيِّئَة، والنَّصِيب مع الحَسَنة، و « منها » الظَّاهِر أن « مِنْ » هنا سَببيَّة، أي : كِفْلٌ بِسَبِبها [ ونَصِيب بسبِبها ]، ويجُوز أن تكُون ابتدائِيةٌ، والمُقِيت : المُقْتَدَر [ قال : ابن عباس : مقتدراً مجازياً ]، قال :[ الوافر ]
١٨٤٧- وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الْوُدَّ عَنْهُ | وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مٌقِيتًا |
١٨٤٨- لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنَّ إذَا مَا | قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ |
ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذَا حُو | سِبْتُ « أنَّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ |
١٨٤٩- تَجَلَّد ولا تَعْجَزْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ | فَإنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ |
[ و ] يقال : قُتُّ الرَّجُلَ؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسهُ » وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت « وفي رواية من رَوَاه هَكَذَا، أي : مَن هو تَحْت قُدْرَته وفي قَبْضَتِه من عِيَالٍ وغيره؛ ذكره ابن عَطِيَّة : يقول :[ منه : قُتُّهُ ] أقوته قُوتاً، وأقَتُّهُ أقِيتُهُ إقَاتَةً، فأنا قَائِتٌ ومُقِيتٌ.
وأمَّا قول الشَّاعِرِ :[ الخفيف ]
١٨٥٠-.......................... إنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
فقال الطَّبَرِي : إنه من غَيْر هَذا [ المعنى المتقدِّم، فإنه بمَعْنَى الموقوفِ، ] فأصْل مُقِيت : مُقْوِت كمُقِيم.
وقال مُجَاهِدٌ : معنى مُقِيتاً : شاهداً وقال قتادة : حَفِيظاً، وقيل معناه : على كل حيوان مُقِيتاً، أي : يُوصِل القُوت إلَيْه.
قال القَفَّال : وأي هَذَيْن المعنيين كان فَالتَّأوِيل صَحِيحٌ، وهو أنه - تعالى- قادر على إيصَال النَّصِيب والكفيل من الجَزَاءِ إلى الشَّافِع؛ مثل ما يُوصِلُه إلى المَشْفُوع، إن خيراُ فَخَيْرٌ، وإن شَرَّاً فَشَرٌّ، ولا ينتَقِص بسبَب ما يَصِل إلى الشَّافِع [ شيء ] من جَزاء المَشْفُوع، وعلى الوَجْه الآخر : أنَّه تعالى- حَافِظُ الأشْيَاء شَاهِدٌ عليها، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِهَا، فهو عَالِمٌ بأن الشَّافِع يَشْفَع في حَقِّ [ أو في ] بَاطِل، حَفِيظٌ عليهم فَيُجَازِي كلاًّ بما عَلِمَهُ منه.
وقوله :﴿ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾ وَلَمْ يقتيه بوقتٍ، والحالُ يدلُّ على أن هذه الصِّفَةِ كانت ثَابِتَة له من الأزَلِ إلى الأبَدِ وليست مُحْدَثة.