فَحيِنئذٍ يَجُوز قَتلُه.
ثالثها : أن في الكَلاَم تَقْدِيماً وتأخِيراً، والتقدير : ومَا كَانَ لِمُؤمِن أن يَقْتُل مُؤمِناً إلا خَطَأ؛ كقوله - تعالى- :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ﴾ [ مريم : ٣٥ ] أي : وما كان الله ليتَّخِذَ من وَلَدٍ؛ لأنَّه - تعالى- لا يُحَرِّم عليه شَيْءٌ، إنَّما يُنْفَى عنه ما لا يَلِيقُ بِهِ.
قال القُرْطُبِي : قوله :﴿ وَمَا كَانَ ﴾ لَيْس على النَّفِي، وإنَّما هو على التَّحْرِيم والنَّهِي؛ كقوله :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] ولو كانت على النَّفِي، لما وُجِد مُؤمِنٌ قَتل مُؤمِناً [ قط ] ؛ لأن ما نفاه الله لا يجُوز وُجُودهُ؛ كقوله ﴿ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾ [ النمل : ٦٠ ]، معناه : ما كُنْتُم لِتُنْبِتُوا؛ لأنه - تعالى- لم يُحرَّم عليهْم أنْ يُنْبِتُوا الشجر، إنما نَفَى عَنْهُمْ أن يمكنهم إنْبَاتُهَا، فإنه - تعالى- هو القَادشرُ على إنْبَاتِ الشَّجَرِ.
ورابعها : أن وجْه الإشْكَال في اتِّصَال هذا الاستِثْنَاء أن يُقَال : الاستثناء من النَّفْي إثْبات، وهذا يَقْتَضِي الإطْلاق في قَتْل المُؤمِن في بَعْضِ الأحْوالِ، وذلك محَالٌ؛ لأن ذلِكَ الإشْكَال إنَّما يَلْزَمُ إذا سَلَّمْنا أنَّ الاستثناء من النَّفْيِ إثْبَات، وذلك مُخْتَلف فيه بين الأصُوليِّين، والصَّحيحُ أنَّهُ لا يَقْتَضِيه؛ لأن الاستِثْنَاء يَقْتَضِي نَفْيَ الحُكْمِ عن المُسْتَثْنَى، لا صَرْف المحكوم عليه، لا بالنَّفْيِ ولا بإثْبَات، وحينئذ يَنْدَفِع الإشْكَال، وممَّا يَدُلُّ على أنَّ الاستثناء في المَنْفِيِّ ليس بإثْبَاتٍ، قوله- ﷺ - :« لا صَلاَةَ إلاَّ بطَهُورٍ ولا نِكَاحَ إلاَّ بولِيِّ » ويقال : لا مُلْكَ إلا بالرِّجَالِ، ولا رِجَال إلاَّ بالمَالِ، والاستثناء في هذه الصور لا يُفيد أن يكون الحُكْم المُسْتَثْنَى من النَّفْي إثْبَاتاً.
وخامسها : قال أبُو هَاشِم : وتقدير الآيَة : وما كان لِمُؤمِنٍ أنْ يَقْتُل مُؤمِناً [ إلاَّ ] أن يَكُون خَطَأ، فإنَّه لا يُخْرِجُه عن كَوْنِه مُؤمناً، وهذا بِنَاء على أصْلِهِم، وهو أنَّ الفَاسِق عند المُعْتَزِلةِ لَيْسَ بمُؤمِن، وهو أصْلٌ [ فاسدٌ ] وباطل.
وإن قُلنا : إنه استِثْنَاء مُنْقطعٌ، فهو لمعنى لكن، ونظائره كثيرة، قال - تعالى- :﴿ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً ﴾ [ النساء : ٢٩ ]. وقال :﴿ الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم ﴾ [ النجم : ٣٢ ] وقال :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥، ٢٦ ].
فصل
قال القُرْطُبِي : ذهب دَاوُد إلى وُجُوب القِصَاصَ بين الحُرِّ والعِبْد، في النَّفْس وفي الأعْضَاءِ، لقوله - تعالى- :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] إلى قوله :﴿ والجروح قِصَاصٌ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] ولقوله - ﷺ - :« المُؤمِنُون تتكَافَأ دِمَاؤُهُم » ولم يفرق بَيْنَ حُرٍّ وعَبْدِ.
قال أبُو حنِيفَة [ وأصْحَابُه ] : لا قِصَاص بين الأحْرَار والعَبِيد إلا [ في ] النَّفْسِ، فيُقتل الحُرُّ بالعَبْدِ كما يقتل العَبْدُ بالْحُرِّ، ولا قِصَاص بينهما في الجِرَاح والأعْضَاء، وأجمع العُلَمَاءُ على أنَّ قوله - تعالى- :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ﴾ لأنَّه لم يَدْخُل فيه العَبِيدُ، وإنما أريد به : الأحْرار؛ فكذلك قوله- عليه السلام :-