فصل


إذا كان وَاجِداً للرقبة، أو قادراً على تَحْصِلَها بِثَمَنِها، فاضِلاً عن نَفَقَتِه ونَفَقَة عِيَاله وحاجته من مَسْكَنٍ ونحوه، فعليه الإعْتَاق، ولا يَجُوز له الصَّوْم، أو نَوَى صَوْماً أخَر، وجب عليه الاستِئْنَاف، فإن أفْطَرَ بعُذْرٍ مُرَخَّصٍ، أو سَفَرٍ، أو حيض : فقال النَّخْعِيُّ، والشافعي في أظهر قَوْليه : يَنْقَطِع التَّتابُع، وعليه الاستِئْنَاف.
وقال سعيد بن المسيَّب، والحَسَن، والشَّعْبِي : لا يَنْقَطِع، ولو حَاضَت المَرْأة، لم ينقطع التَّتَابُع، لأنَّه لا يُمْكِنُ الاحتِرَازُ عنه؛ قال مَسْروقُ : فإن الصَّوْم بدلٌ من مَجْمُوع الكَفَّارَةِ والدِّيَة.

فصل : فيما إذا عجز عن الصوم هل يطعم؟


إذا عَجَز عن الصَّوْم هل يُطْعِم ستِّين مِسْكِيناً فيه قولان :
أحدهما : يطعم كالظِّهَار.
والثاني : لا؛ لأن المُشَرِّع لم يذكر له بَدَلاً.
أحدها : أنه مَفْعُول من أجْلِه، تقديره : شَرَعَ ذلك توبةً منه.
قال أبو البَقَاءِ : ولا يجُوز أن يَكُون العَامِل :« صوم » إلا على حَذْف مُضَافٍ، أي : لوقوعِ تَوْبَة [ من الله ] أو لحُصُول توبة [ من الله ]. يعني : أنه إنما احْتَاج إلى تَقْدِير ذلك المُضَافِ، ولم يقل إن العَامِل هو الصِّيَام؛ لأنه اختلَّ شَرْطٌ من شروطِ نَصْبه؛ لأنَّ فاعلَ الصِّيَام غيرُ فاعل التَّوبَة.
الثاني : أنها مَنْصُوبةٌ على المَصْدَر أي : رجُوعاً منه إلى التَّسْهِيل، حيث نَقَلكم من الأثْقَلِ إلى الأخَفِّ، أو توبة مِنْه، أي : قَبُولاً منه، مِنْ تاب عَلَيْه، إذا قبل تَوْبَته، فالتقدير : تابَ عليكم تَوْبَةً [ مِنْه ].
الثالث : أنها مَنْصُوبةٌ على الحَالِ، ولكن على حَذْفِ مُضَافٍ، تقديره : فَعَليه كذا حالَ كَوْنِهِ صَاحِبَ توبةٍ، ولا يجُوز ذلك من غَيْر تَقْدِير هذا المضاف؛ لأنك لو قُلْتَ :« فعليه صِيَامُ شهريْنِ تَائِباً من الله » لم يَجُزْ، و « من الله » في مَحَلِّ نَصْب؛ لأنه صِفَةٌ ل « توبة » فيتعلَّقُ بمحْذُوف.
فإن قيل : الخَطَأ لا يَكُون مَعْصِية، فما مَعْنَى قوله :﴿ تَوْبَةً مِّنَ الله ﴾.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ فيه نَوْعاً من التَّقْصِير، فإنَّ الظَّاهِر أنَّه لو بَالَغ في الاحْتِيَاطِ والاسْتِكْشَافِ لما تعذر عليه الفعل، ألا تَرَى أن من قَتَل مُسْلِماً يظنه حَرْبيَّا، فلو بالغ في الاستكشافِ، فالظَّاهر أنَّه لَمْ يقَعْ فيه، ومن رمى صَيْداً فأصَاب إنْسَاناً، فلو احتاطَ ولم يَرْمِ إلاَّ في مَوْضع يَقْطَع بأنه ليس هُناك إنْسَان، فإنَّه لا يقع في تلك الواقعة؛ فقوله :﴿ تَوْبَةً مِّنَ الله ﴾ تنبيه على أنه كَانَ مُقَصِّراً في ترك الاحْتِيَاطِ.
وثانيها : أن قوله :﴿ تَوْبَةً مِّنَ الله ﴾ راجعٌ إلى أنَّه - تعالى- أذِن لهُ في إقَامة الصَّوم مقامَ الإعْتَاقِ عند العَجْزِ عنه؛ لأن الله - تعالى- إذا تَابَ على المُذْنِبِ، فقد خَفَّفَ عَنْه، فلما كان التَّخْفِيف من لَوَازِم التَّوْبَة، أطلف لَفْظَ « التوبة » لإرادة التَّخْفِيف؛ إطلاقاً لاسْمِ المَلْزُوم على اللاَّزِم.
وثالثها : أن المُؤمِن إذا اتَّفق له مِثْل هذا الخَطِأ، فإنه يَنْدَم ويتمنَّى ألاَّ يكون ذلك ممَّا وقَع، فسمَّى الله ذلك النَّدم والتَّمنِّي تَوْبَة.


الصفحة التالية
Icon