لما ذكر القتْل الخَطَأ، ذكر بعده بيان حُكم قتل العَمْدِ، وله أحكام مِثْل وُجُوب القِصَاص والديَّة، وقد ذُكر في سُورة البَقَرة عند قوله- [ تعالى ] - ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ] لا جرم اقْتَصَر هَهُنَا على بَيَان الإثْمِ والوَعِيد.
وقوله :« معتمداً » : حالٌ من فَاعِل « يقتل »، وروي عن الكَسَائِيّ سكون التَّاء؛ كأنه فَرَّ من تَوالِي الحَرَكات، و « خالداً نصْبٌ على الحَالِ من محْذُوف، وفيه تقديران :
أحدهما :» يجزاها خالداً فيها « فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضَّمِير المَنْصُوب أو المَرْفُوع.
والثاني :» جازاه «، بدليل ﴿ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ﴾ فعطفَ المَاضِي عليه، فعلى هذا هي حَالٌ من الضَّمِير المنصوب لا غيرُ، ولا يجُوزُ أن تكون حالاً من الهَاءِ في » جزاؤه « لوجهين :
أحدهما : أنه مُضَافٌ إليه، [ ومَجِيْ الحَالِ من المُضَاف إليه ] ضعِيفٌ أو مُمْتَنع.
والثاني : أنه يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بين الحَالِ وصاحبها بأجْنَبِيٍّ، وهو خبرُ المبتدأ الذي هو » جهنم «.
فصل : سبب نزول الآية
نَزَلَت [ هذه الآية ] في مقيس بن ضبابة الكِنْدِي، وكان قد أسْلَم هو وأخُوه هِشَامٌ، فوجد أخَاه هِشَاماً قَتِيلاً في بَنِي فهر إلى بَنِي النَّجَّار، فأتى رَسُول الله ﷺ فذكر له [ ذلك ]، فأرسل رسُول الله ﷺ معه رَجُلاً من بَنِي النَّجَّار؛ أن رسول الله ﷺ يأمُرُكم إن عَلِمْتُم قاتل هِشَام بن ضبابة [ أن تدفَعُوه ] إلى مقيس فيقتصَّ منه، وإن لم تَعْلَمُوه أن تَدْفَعُوا إليْه ديته، فأبلغهم الفِهري ذلك : فَقَالوا : سمعاً وطاعَةً لله ولرسُولِه، ما نَعْلَم له قَاتِلاً ولكنَّا نُؤدِّي ديته، فأعطوه مِائة من الإبل، ثم انْصَرَفَا راجِعَيْن إلى المّدِينَة، فأتَى الشَّيْطَان مقيساً فوسْوَس إليه، فقال : تقبل دِيَّة أخيك فَتَكُون عليك مَسَبَّة، اقْتُل الذي ركب بَعِيراً منها وسَاقَ بقيَّتِها راجعاً إلى مَكَّة [ كَافِراً ] فنزل فيه :» ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها « بكفره وارتداده، وهو الَّذِي استثْنَاه النَّبِيُّ ﷺ يوم فَتْح مَكَّة عَمَّنْ أمَّنَهُ، فَقُتِل وهو مُتَعَلِّق بأستار الكَعْبَة، ﴿ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ﴾ [ أي : طَرَدَهُ عن الرَّحْمَة ] ﴿ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾.
فصل : اختلاف العلماء في شبه العمد
قال القرطبي : ذكر الله- تعالى- في كتابه العَمْد والخطأ، ولم يذكر شِبْهَ العَمْد، وقد اختلف العُلَمَاءِ في القَوْل به :
فقال ابن المُنْذِر : وأنكر ذَلِكَ مَالِك؛ وقال : ليس في كِتاِ الله إلا العِمْدَ والخَطَأ وذكره الخَطَّابي أيضاً عن مَالِك، وزاد : أما شبه العَمْد فلا نَعْرِفُه.
قال أبو عمرو : أنكر مَالِك واللَّيْث بن سَعْد شبه العَمْد، فمن قُتِلَ عِنْدَهُمَا بما لا يَقْتُل مثلُه غَالِباً؛ كالعضَّة واللَّطْمة، وضرب السَّوْط ونحوه؛ فإنه عَمْد وفيه القَوَد، قال : وهو قول جَمَاعَةٍ من الصَّحَابة والتَّابعين، وذهب جُمْهُور فقهاءِ الأمْصَار إلى أن هذا كُلّه شبع العًمْد.