وإذا ثَبَت ذَلِكَ قال المحققون : دَلَّت هذه الآيَةِ على أنَّه - ﷺ - ما كان يَحْكُم إلا بِالوَحْي والنَّصِّ، وإذا كان كَذَلِك، فيتفَرَّعُ عليه مَسْألتانِ :
الأولَى : أن النَّبي ﷺ لم يَجُز لَهُ الاجْتِهَاد.
والثانية : أنَّه - ﷺ - إذا لم يَجُز له أنْ يحكم إلا بالنَّصِّ، وجَبَ أن تكُونَ أمَّتُهُ كَذَلِكَ؛ لقوله - تعالى - ﴿ واتبعوه ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] وإذا كان كَذَلِك، حَرُمَ العَمَلُ بالقِيَاس.
والجَوَابُ : أنه لما قَامَت الدَّلاَلَة على أنَّ القِيَاس حُجَّة، كان العَمل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ في الحَقِيقَةِ؛ لأنَّه يَصِير التَّقْدير : أنه - تعالى - قال : مَتَى غَلَب على ظَنِّك أن حكم الصُّورَة المَسْكُوت عنها، مثل حُكُم الصُّورَة المَنصُوص عَلَيْها، بسبب أمرٍ جامعٍ [ فاعْلم : أنَّه تكليفي في حَقِّك أن تَعْمَل ] بِمُوجِبِ ذلكِ الظَّنِّ، وإذا كان كَذَلِك، كان العَمَل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ.
قوله :« للخائنين » متعلِّق ب « خَصِيماً » واللامُ : للتَّعْلِيل، على بَابِها، وقيل : هي بِمَعْنى :« عن »، ولَيْسَ بشيء؛ لصِحَّة المَعْنَى بدون ذَلِك، ومفعولُ « خصيماً » : محذوفٌ، تقدِيرُه :« خَصِيماً البُرَآء »، وخَصِيمٌ : يجو أن يَكُون مِثَال مبالغةٍ، كضريبٍ، وأن يكون بمعنى : مُفاعل، نحو : خَلِيط وجَلِيس بمعنى : مُخاصِم ومُخالِط ومُجالِس.
قال الوَاحِدِي : خَصْمُك الذي يُخَاصِمُك، وجمعه : الخُصَمَاء، وأصْلُه من الخصْم : وهُو ناحية الشَّيْءِ، والخصْم : طَرْف الزَّاوِيَة، وطَرَف الأشْفَار، وقيل للخَصْمَين : خَصْمَان؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما في نَاحِيَةٍ من الحُجَّة والدَّعْوى، وخُصُوم السَّحَابة : جَوَانِبها.
فصل : في سبب نزول الآية
روى الكلبي، عن أبي صَالح، عن ابن عبَّاسٍ، قال : نزلت هذه الآية في رَجُل من الأنْصَار، يقال له : طعمة بن أبَيْرِق من بني ظَفر بن الحارث، سرقَ دِرْعاً من جَارٍ له يُقَال له : قتادة بن النُّعْمَان، وكانت الدِّرْع في جراب له فيه دَقِيقٌ، فجعل الدَّقِيق يَنْتَثِر من خِرْق في الجِرَاب، حتى انْتَهَى إلى الدَّار، ثم خَبَّأها عند رَجُلٍ من اليَهُود، يُقال له : زَيْد ابن السَّمِين، فالتُمِسَتِ الدِّرْع عند طعمة، فحَلَف بالله ما أخَذَها وما لَهُ بها من علم، فقال أصْحَابُ الدِّرْع : لقد رَأينا أثر الدقيق حتى دخل دَارَه، فلما حَلَف، تركوه واتَّبَعُوا أثر الدقيق إلى مَنَزِل اليَهُودِيِّ؛ فأخذوه منه، فقال اليَهُودِيُّ : دفعها إليّ طعمة بن أبَيْرِق، فجاء بنو ظفر وهم قوم طُعْمَة إلى رسُول الله ﷺ، وسألُوه أن يُجادل عن صَاحِبِهم، وقالوا له : إنك إن لم تَفْعَل، افْتَضَحَ صَاحِبُنا، فهمَّ رسُول الله ﷺ أن يُعاقِب اليَهُودِي.
ويروى عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عَنْهُما في رواية أخْرى : أن طعمة سَرَق الدِّرْع في جِرَابٍ فيه نخالة، فخرق الجِرَاب حَتَّى كان يَتَنَاثر منه النُّخَالة طُول الطَّرِيق، فجاء به إلى دَارِ زيْد السَّمِين وتركه على بابه، وحَمَل الدِّرْع إلى بَيْتِه، فلما أصْبَح صاحِبُ الدِّرْع، جاء على أثَر النُّخَالة إلى دار زَيْدٍ السَّمين، فأخذه وحمله إلى النَّبِي ﷺ، فهم النَّبي ﷺ أن يَقْطع يد زَيْد اليَهُودي.