وقال مقاتل : إن زيداً السَّمين أوْدَع درعاً عند طعمة فَجَحَدَها طعمة، فأنْزَل الله تعالى قوله :﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ بالأمْر، والنَّهْي، والفَصْل، ﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله ﴾ : بما علّمَكَ الله وأوْحَى إليْك، ﴿ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ ﴾ : طعمة، « خصيماً » : مُعيناً مُدَافِعاً عنه.
وهذه القِصَّة تَدُلُّ على أن طعمة وقوْمَه كانوا مُنَافِقِين؛ لأنهم طلبوا البَاطِل، ويؤكِّدُه قوله - تعالى - :﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ﴾ [ النساء : ١١٣ ]. ثم رُوي : أن طعمة هَرَب إلى مَكَّة وارتَدَّ، وثَقَب حَائِطَاً؛ ليَسْرِق، فسقط الحَائِط عَلَيْه فمات.

فصل


قال الطَّاعِنُون في عِصْمة الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - : دلَّت هذه الآيةُ على صُدُور الذَّنْب من الرَّسُول - ﷺ - فإنَّه لَوْلاَ أن الرسُول - [ ﷺ ] أراد أن يُخَاصِم لأجْل الخَائِن ويذب عنه، وإلاّ لما وَرَدَ النَّهْي عَنْه.
والجوابُ : أنه لمَّا ثَبَتَ في الرِّواية : أنَّ قوم طعمة لما التمسُوا من الرَّسُول - ﷺ - أن يَذُبَّ عن طعمة، وأنْ يُلْحِق السَّرقة باليَهُودِيِّ توقف وانتظر الوَحْي، فنزلت الآيَة، وكان الغَرَضُ من هذا النَّهْي : تَنْبيه النبيّ - ﷺ - على أنَّ طعمة كَذَّابٌ، وأن اليَهُودِيَّ بريءٌ من ذَلِك الجُرْمِ.
فإن قيل : الدَّليل على أنَّ الجُرْم قد وَقَعَ من النَّبِي - ﷺ - قوله بعد ذلك :﴿ واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ والأمر بالاسْتِغْفَار، يدل على صُدُور الذَّنْبِ.
فالجواب : من وجوه :
الأوَّل : لعله مَالَ طَبْعُهُ، إلى نُصْرة طعمة؛ بِسَبَبِ أنه كَانَ في الظَّاهِر من المُسْلِمِين؛ فأمر بالاسْتِغْفَار لهذا القَدْر، وحَسَنَاتُ الأبْرَار سَيِّئَات المُقَرَّبين.
الثَّاني : أن القَوْم لما شَهِدُوا بِبَراءة طعمة، وعلى اليَهُودِيِّ بالسَّرِقَة، ولم يَظْهَر للرَّسُول - ﷺ - ما يُوجِب القَدْح في شَهَادَتِهم، هَمَّ بأن يَقْضِي بالسَّرِقة عَلَى اليهودي، ثمَّ لما أطْلَعَهُ اللَّه على كَذِب أولَئكَ الشُّهُود، عَرَف أنَّ ذلك القَضَاء لو وَقَعَ، لكان خَطَأ في نَفْسِه، وإن كَانَ مَعْذُوراً عند اللَّه [ - تعالى - ] [ فيه ].
الثالث : قوله :« واستغفر الله » يُحْتَمل أن يكُون المُرادُ : واستغفر الله لأولئك الَّذين يَذُبُّون عن طعمة، ويُرِيدون أن يُظْهِرُوا بَرَاءَته.
الرابع : قيل : الاسْتِغْفَار في حَقِّ الأنْبِياء بعد النُّبُوَّة على أحَدِ الوُجُوه الثَّلاثة : إما لِذَنْب تَقَدَّم قبل النُّبُوَّة، أو لِذُنُوب أمَّته وقَرَابتِه، أو لِمُبَاح جاء الشَّرْع بتحريمِهِ، فيتركه بالاسْتِغْفَار، والاسْتَغْفَار يَكُون مَعْناه : السَّمع والطَّاعة لحُكْمِ الشَّرْع.
ثم قال :﴿ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي : يَظْلمون أنفُسَهُم بالخِيَانَة والسَّرقة وقِبَلها.


الصفحة التالية
Icon