رُوِي عنه النَّبيِّ ﷺ أنَّه قال :« من كُلِّ ألْفٍ واحدٌ للَّه، والبَاقِي للشَّيْطَان ».
فإن قيل : العَقْل والنَّقْل يدلاَّن على أنَّ حِزْب اللَّه أقلُّ من حِزْب الشَّيطان.
أما النَّقْل : فقوله - تعالى - :﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ]، وحُكِيَ عن الشيطان قوله ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ]، وقوله :﴿ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين ﴾ [ الحجر : ٣٩، ٤٠ ]، ولا شك أن المُخْلَصِين قليلُون.
وأمَّا العَقْل : فهو أنّ الفُسَّاق والكُفَّار كُلَّهم حِزْب إبليس. إذا ثَبَت هذا، فلفظ النَّصِيب إنَّما يتناول القِسْم الأوّل.
فالجواب : أنَّ هذا التَّفَاوُت إنَّما يَحْصُل في نَوْع من البَشَر، أمَّا إذا ضَمَمت زُمْرَة الملائِكَة مع غَاية كَثْرَتِهِم إلى المُؤمنين، كانت الغَلَبَة للمُؤمِنِين.
وأيضاً : فالمُؤمِنُون وإن كانُوا قَلِيلين في العَدَدِ، إلاَّ أن مَنْصِبَهُم عَظِيم عند الله، والكُفَّار، والفُسَّاق وإن كانُوا أكْثَر في العددِ، فهم كالعَدَم؛ فلهذا وقع اسم النَّصِب على قَوْم إبْلِيس.
قوله :« ولأضِلَّنَّهُم » يَعْنِي : عن الحَقِّ، أو عن الهُدَى، وأراد به : التَّزْيين، وإلا فليْس إليه من الإضْلال شَيْء.
ولأمَنِّيَنَّهم : بالباطل، ولآمُرَنَّهم : بالضلال، كذا قدَّره أبو البقاء، والأحْسَنُ أن يُقَدَّر المحذُوفُ، من جنس المَلْفُوظِ به، أي : ولآمُرَنَّهم بالبَتْكِ، ولآمُرَنَّهم بالتَّغْيير.
وقرأ أبو عمرو فِيما نَقَل عنه ابْن عَطِيَّة :« ولامُرَنَّهم » بغيرِ ألفٍ، وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه، ويجُوز ألاَّ يُقَدَّر شَيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القَصْدَ : الإخْبَارُ بوقوعِ هذه الأفْعَال من غيرِ نَظَرٍ إلى مُتعلَّقاتِها، نحو :﴿ كُلُواْ واشربوا ﴾ [ الطور : ١٩ ].

فصل


قالت المُعْتَزِلَة : قوله :« ولأضِلَّنَّهُم » يدل على أصْلَيْن عظيمين :
أحدهما : أن المُضِلَّ هو الشَّيْطَان، وليس المُضِلُّ هو اللَّه - تعالى -؛ لأنَّ الشيطان ادَّعى ذَلِك، والله - سبحانه وتعالى - ما كذَّبَهُ فيه، فَهُو كقوله :﴿ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٣٩ ] وقوله :﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ] وقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ]، وأيضاً : فإنه - تعالى - وَصَفَه بكونه مُضِلاًّ [ للنَّاسِ ] في معرض الذَّمِّ له، وذلك يَمْنَع من كون الإله مَوْصُوفاً بذلك.
[ الثاني : أن أهْل السُّنَّة يقُولُون : الإضْلال عِبَارة عن خَلْق الكُفْر والضَّلال، ونَحْنُ نَقُول : لَيْس الإضلال عِبَارة عن خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلال ] ؛ لأن إبْلِيس وَصَفَ نَفْسَه بأنه مُضِلٌّ، مع أنه بالإجْمَاعِ لا يَقْدِر على خلق الضَّلال.
والجواب : أن هذا كلامُ إبليس، فلا يكون حُجَّةً، وأيضاً : فكلامه في هذه المسألة مُضْطَرِبٌ جِدّاً. فتارةً يَمِيل إلى القَدَرِ المَحْض، وهو قوله :« لأغويَنَّهُم » وأخرى إلى الجبْرِ المَحْضِ، وهو قوله :﴿ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ [ الحجر : ٣٩ ] يَعْني : أنه قال هؤلاء الكُفَّار : نحن أغْويْنَا، فمن الذي أغْوَانا عن الدِّين؟ فلا بُدَّ من انْتِهَاء الكلِّ في الآخِرة إلى اللَّه.
قوله :« ولأمَنِّيَنَّهُم » قيل : أمَنِّينَّهُم ركوب الأهْوَاء.
وقيل : أمَنِّيَنَّهُم إدْرَاك الآخِرَة مع ركوب المَعَاصِي.
قوله :﴿ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام ﴾ أي : يَقْطَعُونها، ويَشقُّونها، وهي البَحِيرة، والبتكُ : القَطْعُ والشّقُّ، والبِتْكَة : القطعة من الشيء، جَمْعُها : بِتَك، قال :[ البسيط ]


الصفحة التالية