قال القُرْطُبِي : فأما خِصاء الآدمِيِّ، فمصيبَةٌ، فإنَّه إذا خُصِي، بَطَل قلبه وقُوَّته، عَكْس الحَيَوان، وانْقَطع نَسْلُه المأمُور به في قوله - ﷺ - :« تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا » ثم إن فيه ألَماً عَظِيماً، ربما يُفْضِي بَصَاحِبهِ إلى الهلاكِ، فيكون [ فيه ] تضْييع مالٍ، وإذْهَابُ تَفْسٍ، وكل ذلك مَنْهِيٌّ عنه، ثم هذه مُثْلَةٌ، وقد نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عن المُثْلَةِ، وجوَّز بَعْضُهم في البَهَائِم؛ لأن فيه غَرَضاً، وكانت العَرَب إذا بَلغَتْ إبلُ أحَدِهِمْ ألْفاً عوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِها.
وحكى الزَّجَّاج عن بعضهم : التَّغْيير هو أن اللَّه - تعالى - خلق الأنْعامَ للرُّكُوب والأكْل، فحربوها، وخَلَق الشَّمْس، والقَمَر، والنُّجُوم، والأحْجَار لمنفعة العِبَاد، فعبدوها من دُونِ اللَّه.
وقيل : التَّغْيير هو التَّخَنُّث؛ وهو عِبَارَةٌ عن الذكر يُشْبِهُ الأنْثَى والسُّحْق؛ عِبَارة عن تَشَبُّه الأنْثَى بالذّكر.
ثم قال :﴿ وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله ﴾ أي : ربًّا يطيعه، ﴿ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ﴾ لأن طاعة اللَّه تعالى تُفِيد المَنَافِع العَظِيمة، الدّائِمة، الخَالِصَة عن شَوائب الضَّرَر، وطاعَة الشَّيْطَان تفيد المَنَافِع القَلِيلَة، المُنْقَطِعة، المشوبة بالغموم والأحزان، ويعمها العَذَاب الدَّائِم، وهذا هُو الخسَار المُطْلَق.
قال أبُو العبَّاس المُقْرِي : ورد لَفْظُ الخُسْرَان [ قي القرآن ] على أربَعَة أوْجُه :
الأوَّل : بمعنى الضَّلالة؛ كهذه الآيَة.
الثَّاني : بمعنى العَجْز؛ قال - تعالى - :﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ يوسف : ١٤ ] أي : عَاجِزُون ومثله :﴿ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٠ ].
الثَّالث : بمعنى الغَبْن؛ قال - تعالى - :﴿ الذين خسروا أَنفُسَهُمْ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٣ ] أي : غبنوا أنْفُسَهم.
الرابع : بمعنى : المُخسِرُون؛ قال - تعالى - :﴿ خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران [ المبين ] ﴾ [ الحج : ١١ ].
قوله :« يُعدُهُمْ وَيُمَنِّيهمْ »، قُرِئَ :« يَعدْهُمْ » بسُكون الدَّال تَخْفِيفاً؛ لتوالي الحَرَكات، ومَفْعُولُ الوَعْد مَحْذُوفٌ، أي : يعدُهُم البَاطِل أو السلامة والعافية ووعدُه وتمْنِيَتُهُ : ما يُوقعه في قَلْب الإنْسَان من طُول العمر، ونَيْل الدُّنْيَا، وقد يكون بالتَّخْوِيف بالفَقْر، فيَمْنَعُه من الإنْفَاقِ، وصِلَة الرَّحِم؛ كما قال - تعالى - :﴿ الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر ﴾ [ البقرة : ٢٦٨ ] و « يُمنيهِم » بأنْ لا بَعْثَ، ولا جنَّةَ، ﴿ وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً ﴾ أي : بَاطِلاً؛ لأنَّ تلك الأمَانِي لا تُفِيدُ إلا المَغْرُور؛ وهو أن يَظُنَّ الإنْسَان بالشيء أنه نَافِعٌ لدينه، ثم يَتَبَيَّن اشْتِمَالُه على أعْظَم المَضَارِّ.
قوله « إِلاَّ غُرُوراً » يُحْتمل أن يكونَ مَفْعولاً ثانياً، وأن يكُون مفعولاً من أجْله، وأن يكون نعت مَصْدرٍ محذوفٍ، أي : وعْداً ذا غُرور، وأنْ يكونَ مَصْدراً على غير الصَّدْرِ؛ لأنَّ « يَعِدُهم » في قوة يَغُرُّهم بوعْدِهِ.
ف ﴿ أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ « أولئك » : مبتدأ، و « مأواهم » : مبتدأ ثانٍ، و « جهنم » : خبر الثَّانِي، [ والجُمْلَة خبر الأوَّل ] وإنما قال :« مأواهُم جَهَنَّم » ؛ لأن الغُرُور عِبَارة عن الحَالَةِ التي يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهَا، ويَحْصُل النَّدَم عند انْكِشَاف الحَالِ فيها، والاستِغَراق في طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا، وفي مَعَاصِي الله - تعالى -، وإن كان في الحَالِ لَذِيذٌ، إلا أن عَاقِبَتَهُ جَهَنَّم، وسُخْطُ الله [ - تعالى - ]، وهذا معنى الغُرُور.


الصفحة التالية
Icon