ومعنى ﴿ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله ﴾ : أخْلَصَ عمله للَّه، وقيل : فَوض أمْرَه إلى اللَّه، « وهو مُحْسِن » أي : مُوَحِّد. و « اتَّبع » يجُوز أن يكون عَطْفاً على « أسْلَمَ » وهو الظَّاهِر، وأن يكونَ حالاً ثانية من فَاعِل « أسْلَم » بإضمار « قَدْ » عند مَنْ يشترط ذَلِك، وقد تقدَّم الكَلاَم على « حَنيفاً » في البَقَرة، إلا أنَّه يَجُوزُ هنا أن يكُون حالاً من فَاعِل « اتبع ».

فصل


« ملَّة إبْرَاهِيم » دين إبراهيم، « حَنِيفاً » أي : مسلِماً مُخْلِصاً.
فإن قيل ظَاهِر هذه الآيَة يَقْتَضِي أنَّ شرع مُحمد - ﷺ - نفس شَرْع إبْرَاهيمَ، وعلى هَذَا لم يَكُن لمحمد - ﷺ - شريعة مُسْتقِلَّة، وأنتم لا تَقُولُون بِذلِك.
فالجوابُ : أن شَريعَة محمد - ﷺ - تُشْبِه أكثر شَرِيعَة إبْرَاهِيمَ.
قال ابن عبَّاسٍ : ومن دينِ إبراهيم : الصَّلاة إلى الكَعْبَة، والطَّواف بها، ومَنَاسِك الحَجِّ، وإنما خصَّ بها إبْراهيم - [ عليه والصلاة والسلام ] -؛ لأنه كان مَقْبُولاً عند جَمِيع الأمَمِ، وقيل : إنَّه بُعِثَ على مِلَّة إبْرَاهِيم، وزِيدَت له أشْيَاء.
قوله :﴿ واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ فيه وجهان وذلك أنَّ « اتَّخذ » إن عَدَّيْناها لاثنين، كان مَفْعُولاً ثانياً، وإلا كان حالاً، وهذه الجُمْلَة عَطْف على الجُمْلَة الاستِفْهَاميةِ التي مَعْنَاها الخَبَرُ، نَبَّهَتْ على شَرَف المَتْبُوعِ وأنه جَدِيرٌ بأن يُتَّبَع لاصْطِفَاءِ الله له بالخُلّة، ولا يَجُوز عَطْفُها على ما قَبْلَها لِعدم صلاحيَّتِها صلةً للموصول.
وجعلها الزَّمَخْشَرِي جملة مُعْتَرِضَة، قال :« فإنْ قلت ما مَحَلُّ هذه الجُمْلةِ؟ قلت : لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها مِنْ جُمل الاعْتِرَاضَاتِ، نحو ما يجيء في الشِّعر من قَوْلهم :» والحَوَادِثُ جَمَّةٌ « فائدتُها تَأكيدُ وجوب اتِّباع ملّته؛ لأنَّ مَنْ بَلَغَ من الزُّلْفَى عند الله أن اتَّخَذَه خَلِيلاً، كان جديراً بأن يُتَّبع » فإنْ عنى بالاعْتِرَاضِ المُصْطَلحَ عليه، فَلَيْس ثَمَّ اعْتِراضٌ؛ إذ الاعْتِرَاضُ بين مُتلازِمِيْن؛ كفِعْل وفَاعِلٍ، ومُبْتَدأ وخَبَر وشَرْط وجَزَاء، وقَسَم وَجَواب، وإن عَنَى غير ذلك احتُمِل، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم :« والحَوَادِثُ جَمَّةٌ » يُشْعِر بالاعْتِرَاض المُصْطَلح عليه؛ فإن قولهم :« والحَوَادِثُ جَمَّةٌ » وَرَدَ في بَيْتَيْنِ :
أحدهما : بين فِعْل وفَاعِل؛ كقوله :[ الطويل ]
١٨٢٢- وَقَدْ أدْرَكَتْنِي وَالحَوَادِثُ جَمَّةٌ أسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعَافٍ ولا عُزْلِ
والآخر يَحْتَمِل ذلك، على أن تكُونَ الباءُ زائدةً في الفَاعِل؛ كقوله :[ الطويل ]
١٨٨٣- ألاَ هَلْ أتَاهَا والحَوَادِثُ جَمَّةٌ بأنَّ امْرَأ القَيْس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا
ويُحْتَمل أن يكونَ الفَاعِلُ ضميراً دلَّ عليه السِّياق، أي : هل أتاها الخَبَر بان أمْرأ القيس، فيكون اعْتِرَاضاً بين الفِعْل ومَعْمُوله.


الصفحة التالية
Icon