وقيل : نزلت في سَوْدَة بنت زمْعَة، حين أرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أن يُطَلِّقها، فالتمست أن يُمْسِكَها وتَجْعَل نَوْبَتَها لِعَائِشَة، فأجازَه النَّبِيُّ ﷺ ولم يطلقها.
وروي عن عَائِشَة، أنها قَالَت : نزلت في المَرْأة تكون عند الرَّجُل، ويُرِيد أن يَسْتَبْدِلَ [ بها ] غيرها، فتقول : أمْسِكْنِي، وتزوج بِغَيْري، وأنت في حِلٍّ من النَّفَقَةِ [ والقَسْم ].
وقال سَعِيد بن جُبَير : نزلت في أبِي السَّائِب، كان له امْرَأةٌ قد كَبِرت، وله مِنْهَا أوْلاد، فأراد أن يُطَلِّقَها ويتزوَّجَ بِغَيْرِها، فقالت : لا تطلِّقْنِي، ودعنِي على وَلَدِي، فاقْسم لي مِنْ كلِّ شَهْرَيْن إن شِئْتَ، وإن شئِتْ فلا تَقْسِم لي، فقال : إن كَانَ يصلحُ ذَلِك؛ فهو أحَبُّ إليّ، فأتَى رسُول الله ﷺ فذكر لَهُ ذَلِك. فأنزل الله ﴿ وإن امْرأةٌ خافت ﴾ أي : علمت قيل : وظَنَّتْ، وقيل : مُجَرَّد الخَوْف عِنْد [ ظُهُور ] أمارات النُّشُوز، وهو البُغْضُ والشِّقَاق، من النَّشْز : وهو ما ارتفع عَنِ الأرْض.
قال الكَلْبِيُّ : نشوز الرَّجُل : ترك مُجَامَعَتِها، وإعراضُهُ بوجْهه عَنْها، وقلة مُجَالَسَتِها، ﴿ فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ ﴾ أي : على الزَّوج والمَرْأة أن يتصالَحَا، والصُّلْحُ إنَّما يحصُلُ في شَيْءٍ يكون حَقًّا له، وحقُّ المرأة على الزَّوْج : إما المَهْر، أو النَّفَقَة، أو القَسْم. فهذه الثلاثة هي التي تَقْدِر المرأة على طلبها من الزَّوْجِ، شاء أم أبَى، وأما الوَطءُ فلا يُجبرُ عليه إلاَّ في بعض الصُّوَر، وإذا كَان كَذَلك، فإذا كَانَتْ هي المُحْسِنَة، ولا تُجْبَر على ذلك، وإن لم تَرْضَ، كان على الزَّوْج أن يُوَفِّيها حقها من القَسْم والنَّفقة [ أو يُسَرِّحها بإحْسَان، فإن أمْسَكها ووفَّاها حقَّها مع كَراهِيَّتهِ، فهو المُحْسِن.
وروى سُليْمَان بن يَسَار، عن ابن عبَّاسٍ : فإن صَالَحَتْهُ عن بَعْضِ حقها من القَسْم والنَّفَقَةِ، ] فذلك جائز ما رَضِيت، فإن أنْكَرَت بعد الصُّلْح، فذلك لَهَا، ولها حَقُّهَاِ.
ثم قال :« والصُّلْح خَيْر » [ يعني : إقَامَتَهَا ] بعد تَخْييره إيَّاهَا، والمُصَالَحة على تَرْك بَعْضِ حَقِّها، خَيْر من الفُرقَة.
كما رُوِي أن سَوْدة كانت امْرأةً كبِيرةً، أراد النَّبِيُّ ﷺ أن يُفَارِقَهَا، فقالت : لا تطلِّقْنِي، وكفاني أن أبْعَث في نِسَائِكَ، وقد جَعَلْتُ نوبتي لِعَائِشَة، فأمْسَكَها رسول الله ﷺ، وكان يَقْسِمُ لِعائِشَة يَوْمَها ويَوْمَ سَوْدَة.

فصل


قال - تعالى - :﴿ فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا ﴾، وذلك يُوهِمُ أنَّه رخصة، والغايةُ فيه : ارْتِفَاع الإثْم، فبين - تعالى - أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُنَاح فيه ولا إثْم، ففيه خَيْر عَظِيمٌ.
قوله :﴿ وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح ﴾ « حَضَر » يتعدى إلى مَفْعُول، واكتسب بالهمزة مفعُولاً ثانياً، فلمَّا بُني للمفعُول، قامَ أحدهما مقام الفاعل، فانتصب الآخرُ، والقائمُ مقام الفاعِلِ هنا يَحْتمل وجهين :
أظهرهما - وهو المشهُورُ من مذاهب النُّحَاة - : أنه الأول وهو « الأنْفُسُ » فإنه الفاعِل في الأصْلِ، إذ الأصْل :« حَضرت الأنْفُسُ الشُحَّ ».


الصفحة التالية
Icon