في تعلُّق هذه الآيَة بما قَبْلَها وجهان :
الأوَّل [ أنه - تعالى - لمّا ] قال :﴿ يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ﴾ [ النساء : ١٣٠ ] أشار إلى ما هُو كالتَّفْسير لكونه وَاسِعاً؛ فقال :﴿ وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ يعني : من كَانَ كَذَلِكَ، [ فإنه ] يكون وَاسِع العِلْم، والقُدْرَة، والجُود، والفَضْل، والرَّحمة.
الثاني : أنه - تعالى - لمَّا أمر بالعَدْل، والإحْسَان إلى اليَتَامي والنِّسَاء، بَيَّنَ أنه مَا أمر بِهَذِه الأشْيَاء لاحتياجه لأعْمَال العِبَادِ، لأن من كَانَ لَهُ ما في السَّموات ومَا فِي الأرْض، كيف يَكُون مُحْتَاجاً إلى عَمَل الإنْسَان مع ضَعْفِهِ وقُصُوره، وإنما أمَر بِها رِعَاية لما هو الأحْسَن لَهُم في دُنْيَاهم وأخْرَاهُم.
ثم قال ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ يعني : أهْل التَّوْرَاةِ، والإنْجِيلِ، وسائر الأمم المُتَقَدِّمَة في كُتُبِهِم، والكِتَاب : اسم جِنْس يتناول الكُتُب السَّمَاوِيَّة، « وإيَّاكم » : يا أهل القُرْآن في كتابكم، ﴿ أَنِ اتقوا الله ﴾ أي : وَحِّدُوه وأطِيعُوه، وتَقْوى اللَّه مَطْلُوبَة من جَمِيع الأمَمِ، في سائر الشَّرَائِعِ لم تُنْسَخ، وَهِي وَصِيَّة اللَّه في الأوَّلِين والآخِرين.
قوله :« مِنْ قَبْلِكُم » فيه وجهان :
الأول : أنه مُتَعَلِّق ب « وصَّيْنَا » يعني : ولقد وصَّيْنَا من قَبْلكُم [ الذين أُوتُواْ الكتاب.
والثاني : أنه متعلِّق ب « أوتُوا » يَعْني : الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ]، وصيناهم بذلك، والأوَّل أظْهَر.
قوله :« وإيَّاكم » : عَطْف على ﴿ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ وهو واجبُ الفَصْل هُنَا؛ لتعذُّرِ الاتِّصَال، واستدلَّ بَعْضُهم على أنَّه إذا قُدِر عَلى الضمير المُتَّصِل يجُوز أَن يُعْدَلَ إلى المُنْفَصِل بهذه الآية؛ لأنه كان يُمْكِنُ أن يُقَال :« ولقد وَصِّيْنَاكُم والَّذِين أوتُوا الكِتاب »، وكذلك استُدِلَّ بقوله - تعالى - :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ]، إذ يمكن أن يُقَالَ : يخرجُونَكُم والرَّسُولَ، وهذا ليس يدلّ له :
أمَّا الآيةُ الأولى : فلأنَّ الكَلامَ فيها جَاءَ على التَّرتِيب الوُجُودِي، فإنَّ وَصِيَّة مَنْ قبلَنا قبلَ وَصيَّتنا، فلمَّا قَصَدَ هذا المَعْنَى، استحال - والحالةُ هذه - أن يقُدْرَ عليه مُتَّصِلاً.
وأما الآية الثَّانية : فلأنَّه قصد فيها تَقَدُّمَ ذِكْرِ الرَّسُول؛ تشريفاً له، وتشنيعاً على مَنْ تَجاسَر على مِثْلِ ذلك الفِعْل الفَظِيع، فاسْتَحَال - والحالة هذه - أن يُجَاء به مُتَّصِلاً، و « مِنْ قبلكم » : يَجُوزُ أنْ يتعلَّق ب « أوتُوا »، ويجُوز أنْ يتعلَّق ب « وَصَّيْنَا » ؛ والأولُ أظهرُ.
قوله :« أن اتَّقُوا » يجوزُ في « أن » وَجْهَان :
أحدُهُمَا : أن تكون مصدرِيّة على حَذْفِ حَرْفِ الخَفْضِ، تقديرُه : بأن اتَّقوا، فلما حُذِف الحَرْفُ جَرَى فيها الخِلافُ المَشْهُور.
والثاني : أن تكُون المُفَسِّرة؛ لأنها بَعْد ما هُو بِمَعْنَى القَوْل، لا حروفه وهو الوصيّة، والظاهر أن قوله :« وإن تَكْفُرُوا » جملة مُسْتأنفة؛ للإخبار بأن هذه الحَالِ ليست داخلة في مَعْمُول الوصِيّة.


الصفحة التالية
Icon