وقال الحَسَن : اللَّه أعْلَم بهما.
قال القُرْطُبِيُّ :« قَوَّامين » بناء مُبَالَغَة، أي : ليتكَرَّر منكم القِيَام بالقِسْط وهو العَدْل في شَهَادَتِكُم على أنْفُسِكُم، وشهادة المَرْء على نفْسِه : إقرَارهُ بالحُقُوق عليها، ثم ذكر الوالِدَيْن؛ لوجوب بِرِّهِما، وعظم قَدْرِهمَا، ثم أتَى بالأقْرَبين؛ إذْ هُم مَظَنَّة المَودَّة والتَّعَصُّب، وجاءَ الأجْنَبِيُّ الآخر؛ لأنه أحْرَى أن يَقُوم [ عليه ] بالقِسْطِ.
فصل
إنما قدَّم الأمْر بالقِيَام بالقسط على [ الأمْر ] بالشَّهادة لِوُجُوه :
أحدُهَا : أن أكْثَر النَّاس عادتهم أنَّهم يَأمُرُون غَيْرَهُم بالمَعْرُوفِ، فإذا آل الأمْر إلى أنْفُسِهِم، تركوه حتى إنَّ قُبْحَ القَبِيحِ إذا صَدَر عنهم، كان في مَحَلِّ المُسَامَحَة وأحْسَنَ الحُسْن، إذا صَدَرَ عن غَيْرِهم، كان في مَحَلِّ المُنَازَعة، فاللَّه - تعالى - نبّه في هذه الآية على سُوءِ الطَّرِيقَة، بأنْ أمره بالقِيَام [ بالقِسْطِ ] أوّلاً، ثم أمَرَهُ بالشَّهَادة على غَيْرِه ثَانِياً، تنبيهاً عَلَى أن الطَّرِيقَة الحَسَنة هي أن تكُون مُضَايَقَة الإنْسَان مع نَفْسِه [ فَوْق ] مُضايقته مع الغَيْر.
وثانيها : أنَّ القِيام بالقِسْط : هو دَفْع ضَرَر العِقَاب عن النَّفْسِ، وإقَامَة الشَّهَادة، سعي في دَفْع ضَرَر العِقَاب عن الغَيْر، وهو الَّذِي عَلَيْه الحَقُّ، ودفع الضرر عن النَّفْسِ مُقَدَّم على دَفْع الضَّرَر عن الغَيْرِ.
وثالثها : أن القِيَام بالقِسْطِ فعل، والشَّهادة قول [ والفِعْل أقْوى من القَوْل ].
فإن قِيل : فقد قدَّم الشَّهادة على القِيام بالقسْطِ في قوله :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط ﴾ [ آل عمران : ١٨ ].
فالجواب : أنَّ شهادَةَ الله عبارَةٌ عن كونه مُرَاعِياً للعَدْل، ومُبَايِناً للجَوْر، ومعلوم : أنَّه ما لم يكن الإنْسَان كذلك، لم يُقْبَل شَهَادتُهُ على الغَيْر؛ فلهذا كان الوَاجِبُ في قوله :« شَهِدَ اللَّه » ] أن يقدِّم تلك الشَّهادة على القِيَامِ بالقِسْطِ، والواجِبُ هُنَا : أن تكُون الشَّهادة متأخِّرَة عن القِيَامِ بالقِسْطِ.
قوله :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا ﴾ إذا عُطِف ب « أوْ » كان الحُكْمُ في عَوْدِ الضَّمِير، والإخْبَارِ، وغيرهما لأحدِ الشَّيْئَيْن أو الأشياء، ولا يجُوزُ المُطابَقَةُ، تقول :« زَيْد أو عَمْروا أكْرمتهُ » ولو قُلْتَ : أكرمتهُمَا، لم يَجُز، وعلى هذا يُقال : كيف ثَنَّى الضَّمِير في الآية الكَرِيمَةِ، والعطف ب « أو » ؟ لا جَرَم أن النَّحْويِّين اختلَفُوا في الجواب عن ذلك على خَمْسَةِ أوْجُه :
أحدُها : أنَّ الضَّمِير في « بهما » ليس عَائِداً على الغَنِيِّ والفقير المَذْكُورين أولاً، بل على جنْسَي الغني والفَقِير المدلُولِ عليهما بالمَذْكُورَيْن، تقديرُه : وإنْ يكنِ المشهُودُ عليه غَنِيًّا أو فقيراً، فليشْهَد عليه، فاللَّهُ أوْلى بجنْسَي الغنيِّ والفقيرِ؛ ويَدُلُّ على هذا قِراءة أبَيِّ :« فاللَّه أوْلَى بِهِمْ » أي : بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجِنْسِ على ما قَرَّرته لَك، ويكون قوله :« فالله أولى بِهِمَا » ليس جواباً للشرط، بل جَوابُه مَحْذُوفٌ كما قَدْ عَرَفْتَه، وهذا دالٌّ عليه.