الثاني : أنَّ « أو » بمعنى : الواو؛ ويُعْزى هذا للأخْفش، وكنت قدَّمْتُ أوّلَ البقرة : أنه قولُ الكوفيين، وأنه ضعيفٌ.
الثالث : أن « أو » : للتَّفْضِيل أي : لتفصيلِ ما أبْهِم، وقد أوضح ذلك أبُو البقاء، فقال :« وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من المَشْهُود عليه والمشهود له، قد يكُون غنيًّا، وقد يكُون فقيراً، وقد يكونان غَنِيَّيْنِ، وقد يكونان فَقَيرَيْن، وقد يكون أحَدُهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً؛ فلما كَانتِ الأقسام عند التَّفْصِيل على ذلك، أُتِي ب » أو «، لتَدُلَّ على التَّفْصِيل؛ فعلى هذا يكون الضَّمِير في » بهِما « عائداً على المَشْهُود له والمشهود عليه، على أيِّ وصفٍ كانا عليه » انتهى؛ إلا أنَّ قوله :« وقد يكون أحَدهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً » مكرَّرٌ؛ لأنه يُغْني عنه قوله :« وذَلِك أنَّ كلَّ وَاحِد » إلى آخره.
الرابع : أنَّ الضَّمِير يعود على الخَصْمَيْن، تقديره : إن يكُن الخصمان غنيّاً أو فقيراً، فالله أوْلى بِذَينك الخصمين.
الخامس : أن الضَّمير يعود على الغَني والفَقير المدْلُول عليهما بلَفْظ الغنّي والفقير، والتقديرُ : فاللَّهُ أولى بغنى الغني وفقر الفقير، وقد أساء ابن عصْفُور العِبَارة هنا بما يُوقفُ عليه في كلامه، وعلى أربعة الأوجهِ الأخيرة يكونُ جوابُ الشَّرط ملفوظاً به، وهو قوله :﴿ فالله أولى بِهِمَا ﴾ بخلاف الأوَّل؛ فإنه مَحْذُوفٌ.
وقرأ عبد الله بن مسعود :« إن يَكُنْ غنيٌّ أو فقيرٌ » برفعهما، والظَّاهرُ أنَّ « كان » في قراءته تامةٌ، أي : وإنْ وجِد غِنِيٌّ أو فقير، نحو :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٨٠ ].
قوله :﴿ فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى ﴾ أي : اتركُوا متابعة الهَوَى؛ حتى توصَفُوا بالعَدْل؛ لأنَّ العدل عِبارة عن تَرْك مَتَابعة الهَوَى، ومن تَرَك أحَد النَّقِيضَيْن، فقد حَصَل له الآخَر.
قوله :« أنْ تَعْدِلُوا » فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه مَفْعُولٌ مِنْ أجله على حَذْفِ مضافٍ، تقديره : فلا تتَّبِعُوا الهوى محبةَ أنْ تَعْدِلوا، أو إرادةَ أنْ تَعْدِلوا، أي : تَعْدِلوا عن الحَقِّ وتجُوروا.
وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف :« تقديره : مخافة أن تَعْدلوا عن الحَقِّ ». وقال ابن عَطِيَّة :« يُحْتمل أن يكُونَ مَعْناه : مخافة أن تَعْدِلوا، ويكُون العَدْلُ هنا بِمَعْنى : العُدول عن الحَقِّ، ويُحْتمل أن يكُونَ معناه : مَحَبة أنْ تُقْسِطُوا، فإنْ جعلْتَ العَامِل » تَتَّبِعُوا « فيحتمل أن يكونَ المَعْنَى : محبةَ أنْ تجُوروا » انتهى؛ فتحصَّل لنا في العَامِل وجهان :
الظاهرُ منهما أنه نَفْسُ « تتبعوا ».


الصفحة التالية
Icon