لما ذَكَرَ تعالى أمر اليتامى، وصله بذكر المواريثِ، وهذا هو النَّوْع الرَّابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة، ويكون ما يتعلق بالمواريث.
قال ابن عباس : سبب نزول هذه الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بَنِي عمّه وهما وصيّان له يقال لهما : سُوَيدٌ وعَرْفجَة فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهليَّةِ لا يورثون النِّساء ولا الصغار، وإنْ كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرِّجال، ويقولون لا يعطي إلا من قاتل، وطاعن بالرُّمح، وحاز القسمة وذبَّ عن الحَوْزَةِ، « فجأت أمُّ كُحّة فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات، وترك عليّ بنات، وأنا امرأته ليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهنّ مالاً حسناً، وهو عند سويد وعرْفجة، ولكم يعطياني ولا بناتي شيئاً وهن في حجري لا يطمعْنَ ولا يسقين، فقال رسول الله ﷺ » ارجعي إلى بيتك حتى أنظر فيما يحدثُ الله في أمرك «. فدعاهما رسول الله - ﷺ - فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلاًّ، ولا يَنْكَأُ عَدُوّاً فأنزل الله تعالى :﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون ﴾ يعني للذُّكور مما ترك أولاد الميِّت وأقربائه ﴿ نَصيِبٌ ﴾ حظّ ﴿ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون ﴾ من الميراث، ﴿ وَلِلنِّسَآءِ ﴾ نصيب، ولكنه تعالى لم يُبَيِّن المقدار في هذه الآية، فقال رسول الله ﷺ » لا تُفَرِّقَا مِنْ مَالِ أوْسِ بْنِ ثَابِتْ شيئاً فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيباً مِمَّا تِرَكَ، ولَمْ يبيِّن كَمْ هُوَ حَتَّى أنْظُر مَا يَنْزِلُ فِيهِنَّ « فأنزل اللهُ -عزّ وجلّ- :﴿ يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين ﴾ [ النساء : ١١ ] فأرسل رسول الله ﷺ إلى سُوَيْدٍ وَعُرْفُجة أن ادفعا إلى أمّ كُحة الثمن وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال، » فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
بين الله تعالى أن للنِّسَاء حقاً في الميراث خلافاً لعادَةِ العرب في الجاهليَّةِ وذكره مُجْملاً أولاً ثم بَيَّنَهُ بعد ذلك على سبيل التدريج؛ لأنَّ النَّقل عن العادة يشق، فقال لهما :« ادفعا إليها نصيب بناتها الثُّلثين ولَكُمَا باقي المال ».
قوله :﴿ مِّمَّا تَرَكَ ﴾ هذا الجارُّ في محل رفع؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أيْ : نَصِيبٌ كائن أو مستقر، ويجوز أن يكون في محلّ نصبٍ متعلِّقاً بلفظ « نصيب » لأنه من تمامه. وقوله ﴿ مِمَّا قَلَّ ﴾ [ و ] في هذا الجارّ أيضاً وجهان :
أحدهما : أنه بدل من « ما » الأخيرة في « مما ترك » بإعادة حرف الجرّ في البدل، والضمير في « منه » عائد على « ما » الأخيرة، وهذا البدل مرادٌ أيضاً في الجملة الأولى حُذِفَ للدلالة عليه، ولأن المقصود بذلك التأكيد؛ لأنه تفصيلٌ للعموم المفهوم من قوله ﴿ مِّمَّا تَرَكَ ﴾ فجاء هذا البدل مفصّلا لحالتيه من الكثرة والقِلَّةِ.


الصفحة التالية
Icon