وثالثها : أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة.
قلنا : إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش، وخيانتهم أعْظَم، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى، فجرى مُجْرَى قوله :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] خصَّهُما بالذِّكر لأجل التشريف، وكقوله :﴿ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ].
فإن قيل : اللاَّم في قوله :« لِيَغْفِرَ لَهُم » : للتأكيد، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي.
فالجواب : إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله :﴿ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ]، تقدَّم الكلام فيه، ومَذَاهب النَّاس، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد، والفرق بَيْن قَوْلك :« مَا كَانَ زَيْد يَقُوم »، و « ما كانَ لِيَقُوم ».
قوله :﴿ ولا ليهديهم سبيلاً ﴾ يدلُّ على أنه - تعالى - لم [ يَهْدِ ] الكافرين إلى الإيمَانِ.
وقالت المُعْتَزِلَةُ : هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة.
قوله ﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً ﴾ البشارة : كل خبرٍ تتغيَّرُ به بشرَةُ الوجْهِ، سارّاً كان أو غَيْر سَارٍّ.
وقال الزَّجَّاج : مَعْنَاه : اجعل في مَوْضع بِشَارتك لَهُم العَذَاب، كما تقول العرب :« تحيتك الضَّرْبُ وعِتَابُكَ السَّيْفُ »، أي : بَدَلاً لكُم من التَّحِيَّةِ، ثم وصَفَ المُنَافِقِين، فقال :﴿ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ يعني : يتَّخذون اليَهُود والنَّصَارى أولياء، وأنْصاراً، وبِطَانة من دُون المُؤمنين، كان المُنَافقُون يوادُّونَهُم، ويقول بَعْضهم لبَعْضٍ : إن أمر محمَّد لا يَتِمُّ.
قوله :« الَّذِين » يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع، فالنصب من وَجْهَيْن :
أحدهما : كونه نعتاً للمُنَافِقِين.
والثاني : أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر، أي أذمُّ الَّذِين، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي : هم الَّذِين.

فصل


قال القُرْطُبِيُّ : وفي الآيَة دَلِيلٌ على أنَّ من عَمِل مَعْصِيَةً من الموحّدين، ليس بمنافِقٍ؛ لأنَّه لا يتولّى الكُفَّار، وتضمنت المَنْع من مُوالاة الكُفَّار، وأنْ يتَّخِذُوا أعْواناً على الأعْمال المُتَعَلِّقة بالدِّين، وفي الصَّحيح عن عَائِشَة - رضي الله عنها - :« أنّ رجلاً من المُشْرِكين لحق بالنَّبيِّ ﷺ يُقَاتِل مَعَه، فقال : ارجعْ، فإنَّنا لا نَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ ».
قوله :﴿ أيبتغون عندهم العزة ﴾ أي : المَعُونة، والظُّهور على محمَّد ﷺ وأصحابه، وقيل : أيطلبون عندهُم القُوَّة، والغَلَبة، والقُدْرة.
قال الواحدي : أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة : الشِّدَّة، ومنه : قيل : للأرْضِ [ الصَّلْبَة ] الشَّديدة : عزَاز ويقال : قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ : إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ، ومنه :[ عَزَّ ] عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى : اشتَدَّ، وعز الشَّيْء : إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ، واعتز فلانٌ بفلان : إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به، وشاةٌ عَزُوزٌ : إذا اشتَدَّ حَلْبُها، والعِزَّة : القُوَّة، منقولة عن الشِّدَّة؛ لتقارب مَعْنَيْهما، والعَزِيز : القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة، بسبب اتِّصالهم باليَهُود، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله :﴿ فإن العزة لله جميعاً ﴾.


الصفحة التالية
Icon