قال ابن عَطِيَّة :« وهي - يعني هذه القراءة - أقْوَى من » يُرَاؤُونَ « في المعنى؛ لأنَّ مَعْنَاها يَحْمِلُون النَّاسَ على أنْ يَرَوْهم، ويتظاهَرُون لهم بالصَّلاة ويُبْطنُون النِّفَاقَ » وهذا منه ليس بجيِّد؛ لأنَّ المُفَاعَلة إنْ كَانَت عَلَى بابها، فهي أبْلَغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرَّة، وإنْ كانت بِمَعْنَى التفعيل، فهي وَافِيةٌ بالمَعْنَى الذي أرَادَه، وكأنه لم يَعْرِف أنَّ المفاعلة قد تَجِيءُ بمعنى التَّفْعِيل. ومتعلَّقُ المُرَاءاةِ محذُوفٌ؛ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءى به، والأحْسَن أن تُقَدِّر : يُراؤون النَّاسَ بأعْمَالِهم.
قوله :﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ « ولا يَذْكُرُون »، يجوز أن يكون عَطْفاً على « يُرَاؤُون »، وأن يكون حالاً من فاعِل « يُراؤُون » وهو ضعيفٌ؛ لأن المُضارع المَنْفِيَّ ب « لا » كالمُثْبَتِ، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً، لا يَقْترِنُ بالوَاوِ، فإنْ جَعَلها عَاطِفَةً، جَازَ.
وقوله :« قليلاً » : نعتٌ لمصدرٍ محذُوفٍ، أو لزمان مَحْذوفٍ، أي : ذكْراً قليلاً أو زمناً قليلاً، والقلةُ هُنَا على بابها، وجَوَّز الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطِيَّة : أن تكون بِمَعْنَى العَدَم، ويأباه كَوْنُه مُسْتَثْنى، وقد تقدَّم الردُّ عليهمَا في ذَلِكَ.
فصل
قال ابنْ عبَّاسٍ، والحسن : إنَّما قال ذَلِك؛ لأنَّهمُ يَفْعَلُونها رِيَاءً وسُمْعَة، ولو أرَادُوا بذلك القَلِيل وَجْهَ اللَّه، لكان كَثِيراً، وقال قتادة : إنَّما قلَّ ذكرُ المُنَافِقِين؛ لأنَّ الله لم يَقْبله، وكلّ ما قَبِلَ اللَّه، فهو كَثِيرٌ.
وقيل : المعنى : لا يصلّون إلا قَليلاً، [ والمُرادُ ب « الذكر » الصَّلاة ]، وقيل : لا يَذْكُرُون اللَّه في جَمِيع الأوقات، سواءً كان وَقْت الصَّلاة أوْ لَمْ يكُن إلاَّ قَلِيلاً نادراً.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ :[ وترى ] كثيراً من المُتَظَاهِرِين بالإسْلام، لو صِحِبْتَهُ الأيَّام واللَّيَالي، لَمْ تسمع منه تَهْلِيلَةً، ولكن حَدِيث الدُّنْيَا يَسْتَغْرِقُ به أوْقاته، لا يَفْترُ عَنْه.
قوله :« مُذَبْذَبِينَ » : فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه [ حالٌ ] من فاعل « يراءون ».
الثاني : أنه حالٌ من فاعل « وَلاَ يَذْكُرُون ».
الثالث : أنه منصوبٌ على الذَّمِّ، والجمهور على « مُذَبْذَبينَ » بميم مضمومة وذَالَيْن معجمتَيْن، ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول، من ذَبْذَبْتُهُ، فَهُوَ مُذَبْذَبٌ، أي : مُتَحَيِّرٌ، وقرأ ابن عبَّاس وعمرو بنُ فائدٍ بكَسْر الذال الثانيةِ اسمَ فاعلٍ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أنه من « ذَبْذَب » متعدِّياً، فيكونُ مفعولُه محذوفاً، أي : مُذَبْذَبينَ أنْفُسَهُمْ أو دينهُمْ، أو نحو ذلك.
الثاني : أنه بمعنى تَفَعْلَل، نحو :« صَلْصَلَ » فيكون قاصراً؛ ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أبَيٍّ، وما في مصحف عبد الله « مُتَذَبْذِبِينَ » فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابن عبَّاس بمعنى مُتَذَبْذبين، وقرأ الحَسَنُ البصريُّ « مَذَبْذَبِين » بفتح الميم.