وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع : فرَوَوْا عنه تارةً بسكون العين سكوناً محضاً، وتارةً إخفاء فتحة العين، فأما قراءة نافع، فأصلها : تَعْتَدُوا، ويدلُّ على ذلك إجماعُهُمْ على :﴿ اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت ﴾ [ البقرة : ٦٥ ] كونه من الاعتداء، وهو افتعالٌ من العدوان، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدالِ، فنُقِلتْ حركتُها إلى العين، وقُلبت دالاً وأدغمت. وهذه قراءةٌ واضحةٌ، وأما ما يُروَى عن قالون من السكُون المحْضِ، فشيءٌ لا يراه النحْويُّون؛ لأنه جَمْعٌ بين ساكنينِ على غير حَدِّهما، وأمَّا الاختلاسُ فهو قريب للإتيان بحركة ما، وإن كانت خفيَّةً، إلا أنَّ الفتحة ضعيفةٌ في نَفْسِهَا، فلا ينبغي أن تُخْفَى لِتُزادَ ضعفاً؛ ولذلك لم يُجز القراءُ رَوْمَهَا وقْفاً لضعفِها، وقرأ الأعمش :« تَعْتَدُوا » بالأصل الذي أدغَمُه نافع.
ثم قال ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ قال القفال : المِيثَاقُ الغَلِيظُ : هو العَهْدُ المؤكَّدُ غَايَة التَّوْكِيدِ.
قوله :﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ ﴾ : في « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيداً.
والثاني : أنها نكرة تامَّة، و « نَقْضِهِمْ » بدلٌ منه، وهذا كما تقدَّم في [ قوله ] ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ]. و « نَقْضِ » مصدرٌ مضاف لفاعله، و « مِيثَاقَهُمْ » مفعوله، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل « مَا » هذه وجهان :
أحدهما : أنه « حَرَّمْنَا » المتأخِّر في قوله :﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا ﴾ [ النساء : ١٦٠ ] وعلى هذا، فيقال :« فَبِظُلْمٍ » متعلِّق ب « حَرَّمْنَا » أيضاً، فيلزم أن يتعلق حرفاً جَرٍّ متحدانِ لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل، وأجابوا عنه بأن قوله « فَبِظُلْمٍ » بدل من قوله « فبمَا » بإعادة العامل، فيقال : لو كان بدلاً لما دخلَتْ عليه فاءُ العطف؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه، أعادَ الفاءَ للطُّولِ، ذكر ذلك أبو البقاء والزَّجَّاج والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم.
ورَدَّه أبو حيان بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم؛ فلا يمكنُ أن يكون سبباً أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وذلك أن قولهم :﴿ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح ﴾ وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات، قال :« فالأوْلَى أن يكونَ التقدير : لَعَنَّاهُمْ، وقد جاء مصرَّحاً به في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ».
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف، فقدَّره ابنُ عطيَّة : لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم، قال :« وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ »، وتسميةُ مثل هذا « جَوَاب » غيرُ معروف لغةً وصناعةً، وقدَّره أبو البقاء :« فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ، أوْ لُعِنُوا، وقيل : تقديرُه : فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ، والفاءُ زائدةٌ ».


الصفحة التالية
Icon