[ أي : في قوله تعالى ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ]. انتهى. وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ، وردَّه، فقال :« فإن قلْتَ : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله » بَلْ طَبَعَ اللَّهُ، فيكون التقديرُ : فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت : لم يصحَّ لأن قوله :﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾ ردٌّ وإنكارٌ لقولهم :« قُلُوبُنَا غُلْفٌ »، « فكانَ متعلِّقاً به »، قال أبو حيان :« وهو جوابٌ حسنٌ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر، وهو أنَّ العطفَ ب » بَلْ « للإضرابِ، والإضرابُ إبطالٌ، أو انتقالٌ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه؛ لأنَّ قوله : فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا [ هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها » بَلْ «، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى، ولو قُلْت : مرَّ زَيْد بِعَمْرو، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرو، لم يَجُزْ ». وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي : فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ، وقَتْلِهِم الأنْبِياءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة.
وأمَّا قولُهم :﴿ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ جمع غِلاَفٍ، والأصل « غُلُفٌ » بتحريك اللاَّم، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا : أنهم قالوا : قُلُوبُنَا غُلْف، أي : أوْعِيَةٌ للعِلْمِ، فلا حَاجَة بِنَا إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ.
وقيل : إن غُلْفاً جَمْع أغْلَف وهو المغَطَّى بالغلافِ، أي : بالغِطَاءِ، والمَعْنَى على هذا : أنَّهمُ قالُوا : قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ، [ فَهي ] لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون؛ نظيره قولُهُم :﴿ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ].
قوله :﴿ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا ﴾ هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم، أي : ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم :« قُلُوبُنَا غُلْفٌ »، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في « طَبَعَ » إلا الكسائي، فأدغم من غيرِ خلاف، وعن حمزة خلاف، والباء في « بِكُفرهِمْ » يُحتمل أن تكون للسببية، وأن تكون للآلة؛ كالباء في « طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ » يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به، أي : مُغَطِّياً عليها، فيكونُ كالطابع، وقوله :« إِلاَّ قَلِيلاً » يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف، أي : إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتاً لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أي : زَمَاناً قَلِيلاً، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوباً على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل « يؤمنُونَ » أي : إلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون؛ لأنَّ الضَّمِير في « لاَ يُؤْمِنُونَ » عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ.