[ والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ، أي : في قوله :﴿ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ فتأمّل ].
وقال البغوي :« إِلاَّ قَلِيلاً » يعني : ممَّن كَذَّب الرُّسُل [ لا ] من طُبِعَ على قَلْبِهِ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه، لا يُؤمِنُ أبَداً، وأرَادَ بالقَلِيلِ : عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه.
قوله :« وبكُفْرهِمْ » : فيه وجهان :
أحدهما : أنه معطوفٌ على « مَا » في قوله :« فَبِمَا نَقْضهِمْ » فيكونُ متعلِّقاً بما تعلَّق به الأول.
الثاني : أنه عطفٌ على « بِكُفرِهِمْ » الذي بعد « طَبَعَ »، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب، فقال :« فإنْ قلْتَ : علامَ عَطَفَ قوله » وَبكُفْرِهِمْ « ؟ قلتُ : الوجهُ أن يُعْطَفَ على » فَبِمَا نَقْضِهمْ «، ويُجْعَلَ قولُه :﴿ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ كلاماً يَتْبَع قوله :﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ على وجه الاستطراد، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله » بِكُفْرِهِمْ «، فإن قلت : فما معنى المجيءِ بالكُفْر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُهُ؟ سواءٌ عطف على ما قبل الإضْراب، أو على ما بعده، وهو قوله :﴿ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله ﴾، وقوله » بِكُفْرِهمْ « ؟ قُلْتُ : قد تكرر منهم الكُفْر؛ لأنهم كفروا بموسَى، ثم بعيسى، ثم بمحمدٍ، فعطف بعض كُفْرِهِمْ على بعض، أو عَطَفَ مجموعَ المعطوفِ على مجموعِ المعطوف عليه؛ كأنه قيل : فبجمْعِهِمْ بين نقضِ الميثاقِ، والكُفْرِ بآيات الله، وقتلِ الأنبياء، وقولهم : قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وجمعهم بين كفرِهمْ وبَهْتِهِمْ مريم وافتخارهم بقتلِ عيسى؛ عاقبناهم، أو بلْ طَبَع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا ».
قوله :[ ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ ﴾ ] « بُهْتَاناً [ عظيماً ] » في نصب [ « بُهْتَاناً » ] خمسةُ أوجه :
أظهرُها : أنه مفعولٌ به؛ فإنه مُضَمَّنٌ معنى « كَلاَم » ؛ نحو : قُلْتُ خُطْبَةٌ وشِعْراً.
الثاني : أنه منصوبٌ على نوع المصدر، كقولهم :« قَعَدَ القُرْفُصَاءَ » يعني : أن القول يكون بُهتاناً وغير بهتان.
الثالث : أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف، أي : قولاً بُهْتَاناً، وهو قريبٌ من معنى الأول.
الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظه، أي : بَهَتُوا بُهْتَاناً.
الخامس : أنه حال من الضميرِ المجْرور في قولهم، أي : مُبَاهِتينَ، وجازَ مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنه فاعلٌ معنًى، والتقديرُ : وبأن قالوا ذلك مباهتين.
فصل في المقصود بالبهتان
والمراد بالبُهْتَانِ : أنَّهُم رموا مَرْيَم بالزِّنَا، لأنَّهم أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - على خَلْقِ الوَلَدِ من غير أبٍ، ومُنْكِرُ قُدْرَةِ الله على ذلك كَافِرٌ؛ لأنه يَلْزَمُ أن يقُول : كُلُّ ولَدٍ مَسْبُوقٍ بوَالِدٍ لا إلى أوَّل، وذَلِك يُوجِبُ القَوْل بِقِدَم العَالَمِ والدَّهْرِ، والقَدْحُ في وجُود الصَّانِعِ المُخْتَار، فالقَوْمُ أولاً أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - علَى خَلْقِ الوَلَدِ من غَيْر أبٍ، وثانياً : نَسَبُوا مَرْيَم إلى الزِّنَا.