﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ] وقال :﴿ إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً ﴾ [ يونس : ٣٦ ] فدَلَّ ذلك على أنَّ اتِّبَاع الظَّنِّ مَذْمُومٌ.
والجوابُ : لا نُسَلِّمُ أن العَمَلَ بالقِيَاسِ [ من اتِّبَاع الظَّنَّ؛ فإن الدَّلِيلَ القَاطِعَ لمَّا دَلَّ على العَمَلِ بالقِيَاسِ ]، كان الحُكْمُ المُسْتَفَاد من القِياسِ مَعْلُوماً لا مَظْنُوناً.
قوله :﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴾ الضمير في « قَتَلُوهُ » فيه أقوال :
أظهرها : أنه ل « عيسى »، وعليه جمهور المفسرين.
والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء - : أنه يعودُ على العلم، أي : ما قتلوا العلم يقيناً، على حدِّ قولهم :« قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقييناً » و « قَتَلتهُ عِلْماً »، ووجْه المجاز فيه : أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ؛ فكأنه قيل : وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به، إنما كان عن ظن وتخمين.
الثالث - وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة - : أنه يعود للظنِّ تقول :« قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً »، أي : تحقَّقت، فكأنه قيل : وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً، ولا قطعوا الظنَّ باليقين.
قوله :« يَقيناً » فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي : قتلاً يقيناً.
الثاني : أنه مصدر من معنى العامل قبله؛ كما تقدم مجازه؛ لأنه في معناه، أي : وما تيقَّنوه يقيناً.
الثالث : أنه حال من فاعل « قَتَلُوهُ »، أي : وما قتلوه متيقنين لقتله.
الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه، أي : ما تيقَّنوه يقيناً، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله، وقدَّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً، فقال :« تقديره : تيقَّنوا ذلك يَقِيناً »، وفيه نظر.
الخامس - ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ - : أنه منصوبٌ بما بعد « بَلْ » من قوله :« رَفَعَهُ الله »، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، أي : بَلْ رفعه الله إليه يقيناً، وهذا قد نَصَّ الخليلُ، فمَنْ دونه على منعه، أي : أن « بَلْ » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه، وقوله :﴿ بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ ﴾ رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه، والضمير في « إلَيْه » عائدٌ على « الله » على حَذْفِ مضاف، أي : إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه.
فصل : إثبات المشبهة للجهة ودفع ذلك
احتَجَّ المُشَبِّهَةُ بقوله - تعالى - :﴿ بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ ﴾ في إثْبَات الجِهَةِ.
والجوابُ : أن المُراد الرَّفْعُ إلى موضعٍ لا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غير الله - تعالى -؛ كقوله تعالى ﴿ وإلى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾ [ آل عمران : ١٠٩ ] وقوله - تعالى - :﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ﴾ [ النساء : ١٠٠ ]، وكانت الهِجْرَة في ذلك الوَقْت، إلى المَدِينَةِ.